الذين قالوا إن الإنسان ابن بيئته لم يخطئوا إطلاقاً. ولعل أحد الذين ينطبق عليهم هذا القول هو الأكاديمي العماني الدكتور سلمان عامر سالم الحجري، الذي نشأ وترعرع في أحضان قرية بدية (على بعد نحو 233 كلم من مسقط) في المنطقة الشرقية من سلطنة عمان، وتفتحت عيونه في طفولته على مشاهد بساتين النخيل والأفلاج وبيوت الطين وتداخل ألوان الرمال الصفراء مع ألوان الطبيعة الخضراء، وترسخت في ذاكرته صور الكتاتيب والأطفال الحفاة وليالي الشتاء الماطرة والأزقة الضيقة المؤدية إلى السوق والجامع، وأبواب المنازل المنقوشة، والنوافذ المستقبلة لأشعة الشمس من فتحات قضبانها الحديدية، ظل وفياً لماضيه القروي فجسده في معظم أعماله الفنية حينما شبّ ودرس وانتقل للعمل في العاصمة مسقط. ويؤكد الحجري دوماً أن الطبيعة هي ملهمته الأولى وهي مصدر الجمال الفطري الذي من خلاله يفهم المرء هندسة الكون وفيزياء الأشياء، بل قال ذات مرة إنه يحلو له العودة إلى الخمائل والنخيل للارتماء بين أحضانها وتأمل أدق تفاصيلها والاستمتاع بروعة خضرتها وتوثيق جماليات تكوينها، مضيفاً: «أنا من الطبيعة وإلى الطبيعة.. أود أن أتحقق كإنسان مستخلف على هذه الأرض.. الفن يستدرجني دائماً إلى فطرتي السليمة، فأجد نفسي مندهشاً من جاذبية كل هذه الأنساق، مطرقاً سمعي لالتقاط تمتمات هذا الكون المليء بالأسرار والسحر». وهكذا فإن للمكان دوراً في حياة وأعمال الحجري، فهو القائل في حديث لموقع «العربية نت» الإخباري في نوفمبر 2017 «إن المكان يبقى معنا حتى لو ارتحلنا عنه. فالوجود المادي ثانوي، في حين أن للمشاعر والأحاسيس التي ترافق وجودنا في هذا المكان بقاءً وسمواً أكثر». لذا فإن بعض المدن التي زارها برزت ذاكرتها وتفاصيلها في لوحاته، بينما لم تنل مدن أخرى النصيب نفسه فعبر عنها بصورة عرضية هلامية لأن أحاسيسه تجاهها لم تخترق وجدانه. الميلاد والحلم في قرية بدية كان الميلاد في عام 1978. وفي مسقط كان الحلم. وما بين الميلاد والحلم سنوات قضاها الحجري متنقلاً من مكان إلى آخر بحثاً عن اكتشاف الذات، وسنوات أخرى أمضاها في استراليا والمملكة المتحدة للتحصيل الجامعي. غير أن سنوات الطفولة هي التي نسجت خيوط موهبته الفنية. ففي طفولته بدأ يرسم وينحت على الخامات القليلة المتوفرة في قريته مستخدماً أدوات طوعها بشق الأنفس لأداء الغرض، بل كان الجدار الخارجي لإحدى غرف المنزل هو مكانه المفضل للرسم و«الشخبطة» البريئة. وبمرور الوقت ودخوله صفوف الدراسة الابتدائية راح يركز على رسم الشخصيات الكرتونية. أما في مرحلة الدراسة الإعدادية فقد قرأ الكثير عن الفنانين المحترفين واطلع على أعمالهم وأساليبهم المستخدمة في الرسم. وفي مرحلة دراسته الثانوية بدأ ينتج لوحاته الزيتية الخاصة ذات المواضيع المتعلقة بالبيئة المحيطة به والغنية بالمناظر الطبيعية الخلابة. بعد تخرجه من الثانوية وصل الرجل إلى قناعة مفادها أن كل ما حققه لا قيمة له ولن يوصله إلى مبتغاه، فقرر صقل موهبته الفنية بالدراسة، فارتحل لهذا الغرض إلى مسقط للتخصص في التربية الفنية من خلال الالتحاق بجامعة قابوس التي تخرج منها في عام 2001. أول معرض وأثناء دراسته الجامعية أقام أول معرض فني له بالاشتراك مع اثنين من زملائه، وعرض فيه نحو 25 لوحة. وبعد تخرجه وحصوله على شهادة البكالوريوس من جامعة بلاده الوطنية تمّ تعيينه معيداً في قسم التربية الفنية في الجامعة، حيث أمضى في هذه الوظيفة مدة عامين أكاديميين. لم يكتف الحجري بشهادة البكالوريوس التي حصل عليها. فشد الرحال مبتعثاً من حكومة بلاده إلى استراليا، حيث نال في عام 2005 درجة الماجستير في التصميم الغرافيكي من «جامعة التكنولوجيا» بمدينة سيدني، وتوسعت آفاقه الفنية والفكرية ونظرته للحياة. لم يتوقف صاحبنا الطموح عن الاستزادة بالعلم، فأكمل دراسته العليا في بريطانيا التي حصل فيها على درجة دكتوراه الفلسفة في الفن والتصميم الغرافيكي من «جامعة لافبره» في عام 2012، مستغلاً فترة وجوده هناك في بناء شبكة من العلاقات التي أغنت مسيرته وتجاربه، ليعود بعدها إلى وطنه للعمل بقسم التربية الفنية في جامعة السلطان قابوس أستاذاً مساعداً في الفن والتصميم الغرافيكي. تحصيل علمي هذا التحصيل العلمي العالي، وذلك الشغف الطويل بالفن والتصميم، معطوفاً على موهبة فذه في الابتكار والانفتاح على مختلف وسائل وأدوات التعبير التشكيلي، ناهيك عن التمسك بأحلام لا حدود لها من منطلق مبدأ مفاده أنه «ليس الممتع في الحلم الوصول إليه، وإنما في جمال المشوار لتحقيق هذا الحلم» حوّل صاحبنا إلى قامة من القامات الفنية في عمان والخليج العربي، واسم يتردد في المحافل الفنية العربية والعالمية، خصوصاً وأنه ــ على خلاف بقية نظرائه العمانيين والخليجيين ــ انصرف إلى الانشغال بجماليات وروحانيات الحروف العربية وتضمينها في أعماله الفنية. والدليل على صحة ما نقول هو أن الحجري لم يكتفِ بإقامة معارضه داخل متاحف وصالات بلاده، وإنما استضافته بلدان أخرى من خلال قصورها ومتاحفها ومواسمها الفنية. فمثلاً شارك بمعارض فنية وقدّم محاضرات حول الفن والتصميم الغرافيكي في مؤتمرات الفنون في كل من شيكاغو، لندن، جلاسكو باسكتلندا، وكوبي باليابان، كرواتيا، روما، عمَّان، الكويت، البحرين، وغيرها، علاوة على عرض أعماله في المعرض التشكيلي العالمي «آرت شوبين» في دورته الـ 23، الذي أقيم في عام 2018 بمتحف اللوفر في العاصمة الفرنسية باريس ضمن 15 فناناً من الشرق الأوسط، بالإضافة إلى 450 مشاركاً من مختلف دول العالم. ناهيك عن مشاركته في بينالي الصين الدولي للفن التشكيلي في دورته الثامنة التي انعقدت في عام 2019 وذلك بعد قبول أعماله في منافسة شارك فيها أكثر من 500 فنان من 125 بلداً حول العالم. ودليلنا الآخر هو أن الرجل حصد العديد من الجوائز، ومنها: الجائزة البرونزية في أكبر مسابقة عالمية في إيطاليا (A’Design Award & Competition) في عام 2014، وجائزة التصميم الغرافيكي الأولى بالمعرض السنوي الثامن للخط العربي والتشكيلات الحروفية 2013 من الجمعية العُمانية للفنون التشكيلية، الفوز بمسابقة أفضل الأعمال المقدمة للمهرجان الدولي الثالث للفنون بإيران عام 2013، الفوز بجائزة المستوى الأول في مجال التصميم الغرافيكي بمعرض الأعمال الفنية الصغيرة السابع 2013، الفوز بمسابقة البينالي الرابع عشر للفن المطبوع في مدينة تايبيه التايونية بمتحف تايون الوطني للفن التشكيلي سنة 2009، الفوز في المسابقة الفنية العالمية التي تنظمها مجلة Aesthetica الصادرة بالمملكة المتحدة مع نشر العمل الفائز في العدد السنوي لعام 2009، الفوز في مسابقة تصميم أجمل بوستر بحثي في مؤتمر التأثير والتأثر بين تخصصات الفن والتصميم، بجامعة لافبره بالمملكة المتحدة سنة 2009. ودليلنا الثالث هو عدد العضويات التي يتمتع بها الرجل في المجالس والجمعيات الفنية المحلية والعربية والأجنبية. فهو مثلاً عضو مجتمع التصميم والفن التابع لمنظمة كومن جراوند The Design Principles Practices knowledge community بشيكاغو في الولايات المتحدة، منذ عام 2014، وهو عضو (ايكوجرادا ICOGRADA المجلس الدولي للتصميم الغرافيكي) بكندا منذ عام 2010، وعضو جمعية تاريخ الفن بالمملكة المتحدة منذ عام 2010، وعضو جمعية محترفي التصميم (AIGA) الأمريكية منذ عام 2010، وعضو جمعية التصميم والإبداع (SiG) اليابانية منذ عام 2010، وعضو مجموعة رؤى الدولية للفنون في تونس منذ عام 2008، وعضو الجمعية العمانية للفنون التشكيلية منذ عام 1997، وعضو مرسم الشباب بمسقط منذ عام1997. يؤكد الحجري، وهو مصيب في هذا، أن القبح يحيط بنا من كل زاوية في صور الحروب والكوارث الطبيعية وجرائم القتل والتهجير والتشريد والتجويع وانتهاك حقوق الإنسان وتدمير البيئة. لذا فهو يحاول جاهداً أن يواجه هذا القبح بريشته وتقنياته الفنية الحديثة، عبر تقديم لوحات جمالية باعثة على شيء من التفاؤل والأمل. وهو في هذا لا يختلف كثيراً عن الكاتب الذي يحاول أن يتصدى لمظاهر الفساد والإفساد في مجتمعه بسلاح القلم والكلمة. الفن الرقمي المثير في حكاية الحجري أنه بدأ، منذ أن كان معيداً في قسم التربية الفنية بجامعة السلطان قابوس، تجربة أمر مستحدث في ميدان الفن والتصميم. ولم يكن ذلك سوى الرسم والتلوين والتخطيط بالألوان الزيتية والمائية والشمعية وغيرها بواسطة الهاتف النقال من خلال تطبيقات متاحة في متجر غوغل، وهو ما يسمى بـ«الفن الرقمي». وحينما ذهب لاستكمال دراسته في استراليا حمل معه تجربته وواصل تنفيذها هناك، بل توسع فيها مستخدما ما يـُعرف بـ«فون آرت Phone Art» وهو الرسم بأصابع اليد الواحدة على سطح الهاتف الذكي الذي تتيح برامجه وتطبيقاته خيارات واسعة للرسم بالسكين والفرشاة والدلو، الأمر الذي يقتصد الكثير من الوقت والجهد على الفنان. وحول الجزئية الأخيرة صرح الحجري لمجلة المرأة الصادرة في مسقط (6-10-2015) قائلاً: «إن الرسم الإلكتروني أسهل من الرسم التقليدي لسهولة حمل الجهاز لأي مكان على عكس أدوات المرسم التقليدي، ورغم ذلك لا يستطيع الرسم الإلكتروني أن يزاحم الرسم التقليدي، فهذا الأمر يشبه إلى حد كبير الجدال الذي يدور حول الكتاب الإلكتروني والورقي، فكل شيء له مميزاته وجمهوره ومحبيه». لذا نراه يروج للفن الرقمي ويدعم حضوره في المعارض الفنية، على اعتبار أنه أقرب إلى روح العصر وشغف الشباب بالتقنيات الحديثة، وأكثر قدرة على تفجير طاقات الشباب الإبداعية وهم في أماكنهم. ناهيك عن أنه يحوّل مواقع التواصل الاجتماعي لمعارض فنية دائمة يمكن مشاهدة ما بها دون تكلفة أو عناء، خصوصاً وأنه أشار في أكثر من مناسبة إلى أن أحد التحديات التي تواجه المعارض الفنية هو ضعف الإقبال عليها من قبل الجمهور، ولاسيما الشباب. ومن ناحية أخرى يحرص الحجري على المشاركة في مختلف المعارض الفنية، لا سيما تلك التي تقدم الجديد في مجال الربط ما بين التكنولوجيا والفنون البصرية. وحينما ووجه الحجري بانتقاد مضمونه أن التعويل على تطبيقات برامج الهاتف الذكي لإنتاج أعمال فنية ألغى خصوصية دور الفنان ورؤاه وما يبثه في العمل من إبداع، انتفض الرجل معارضاً وردّ على الانتقاد بما معناه أن كل ما هو متوفر اليوم من برامج وتطبيقات، رغم أهميته لعالم فن التصميم والرسم الغرافيكي والفن التشكيلي بصفة عامة، لا يغني عن لمسات الفنان ولا يلغي دوره. فالفنان هو من يحدد موضوع العمل، وهو من يحدد خيوط الفكرة، وهو من يصيغ الخطاب البصري، وهو من يقرر درجة الدهشة أو التساؤل أو الجمال أو البهجة أو تناسق الألوان الذي يحمله الخطاب البصري... كل هذا قبل أن يختار الفنان البرامج والتطبيقات الرقمية. من المشاريع التي يعمل عليها الحجري حالياً، للسنة الثانية على التوالي، بصفته الأكاديمية كأستاذ مساعد للتصميم الغرافيكي بجامعة السلطان قابوس، مشروع «عظماء عمانيون»، وهو مشروع مقرر على طلبة قسم التربية الفنية بالجامعة لتوثيق الشخصيات العمانية الملهمة. انحياز إبداعي في حوار مع مجلة «المرأة» أوضح الحجري بطريقة لا لبس فيها انحيازه وميله إلى الحروفية في أعماله الفنية، التي بدأها يدوياً منذ العام 2006 وتكنولوجيا منذ العام 2008، مدللاً على ذلك بأن لوحاته الحروفية عادة ما تمثل 50 بالمئة من مجمل اللوحات المعروضة في أي معرض يشترك فيه، ومشيراً إلى أن القليل من زملائه من الفنانين العمانيين يمارس الحروفية. وفي الحوار نفسه نجده يتحدث عن تنوع لوحاته فيقول: «هناك لوحات تعكس الفن التجريدي باستخدام ألوان (الأكريليك)، ولوحات واقعية باستخدام ألوان زيتية، وأخيراً كان لا بد لي أن أختبر الرسم باستخدام الآيباد والفون آرت»، لافتاً إلى أنه يستوحي أفكاره أولاً من الطبيعة وحكايات القرية، وثانياً من بيئة وتراث عمان، وثالثاً من القضايا الفكرية والإنسانية، ورابعاً من هموم المرأة وقضاياها. وهكذا فإن فناننا صاحب خبرة ودراية، ليس بالمدرسة الحروفية وحدها وإنما أيضاً بالمدرسة التأثيرية والتجريدية ومدرسة الغرافيك آرت والفوتوغرافيا، والفنون الرقمية. أسماء وأساليب في حوار للدكتور سلمان الحجري مع مجلة «الشبيبة» الصادرة في مسقط بتاريخ (21-1-2016)، أفصح عن الأسماء التي تأثر بها في مشواره الفني، فقال إنه تأثر في طفولته بالأساليب الواقعية التي قدمها فنانون من أمثال سالم الحجري وحسين الحجري والفنان الكويتي أيوب حسين الأيوب القناعي (توفي 2013)، وتأثر بالمرحلة الجامعية بأسلوب وفن البروفسور العماني إبراهيم نور البكري، وفي مرحلة الماجستير تأثر بالأسلوب التجريدي للفنان الألماني بول كلي والفنان الروسي فاسيلي كاندينسكي والفنان الهولندي بيت موندريان. أما خلال مرحلة الدكتوراه فتأثر بأساليب فنانين حروفيين كُثر. «ذكريات بيت قروي» أقرب لوحات سلمان الحجري إلى قلبه هي: «ذكريات بيت قروي»، وفيها بيت باللون الأحمر وشجرة وطيور. ويقول الحجري عن سر محبته لها، إنه اكتشف من خلالها أسلوبه وخصوصيته الفنية، مضيفاً: «عندما استدعيت الصورة من الذاكرة ووضعتها على الصفحة ورسمتها بالشكل الذي ترونه شعرت بالسعادة لأنني في تلك الليلة وبعد 23 سنة من دراسة الفن وممارسته وإقامة المعارض وجدت نفسي اكتشفت الأسلوب الذي يميزني، وهو أسلوب يعتمد تقنياً على كشط الألوان بمساحات كبيرة ثم زخرفتها والضغط على الذاكرة لتوليد أفكار زخرفية جديدة».طباعةEmailفيسبوكتويترلينكدينPin InterestWhats App
مشاركة :