يخيل إلي وأنا أكتب أنني أرصف الكلمات في عبارات وسطور لأحد لا يقرأ ما أكتب، على مستوى النص الظاهر، ولا يستنبط ما بين السطور بتجرد وموضوعية، على اعتبار أن الكاتب يمكن أحيانا أن يكون من الوضوح بحيث لايختلف اثنان على فهم ما كتبه. لكن المتلقي في الواقع يقرأ ما أكتب تحت سطوة المألوف والسائد ومادرجت عليه العادة. وهنا يكون الماضي بتداعياته حاضرا وحكما ومفسرا لرأي الآخرين، وفي الوقت ذاته حائلا بينهم وبين ما أكتب إما لأنهم يقرؤونني في كلمات شخص آخر، أو يتعاطون مع النص وهم مثقلون بنوايا وأمنيات لاتنسجم مع بياني، فتكون الهوة سحيقة ويصبح الحكم على النوايا أكثر منه على رسائل تعبر عن معان أقصدها دون مواربة وتحملها المباني دون أجندة خفية أعمق مما يظن المتلقي، ولذلك كان بعض الظن إثماً. القصة لا تتوقف هنا، فعلى الطرف الآخر وسطاء امتهنوا الحؤول بين المتلقين والرسائل التي يكتبها الآخر، فهم بزعمهم الأكثر قدرة على تفكيك النص وبيان ما به من معان يجهلها المتلقي العادي، ولذلك فهم محتسبون لقراءات أكثر رادكالية تعبر عنهم أكثر مما تعبر عن حقيقة النص محل التعاطي. لقد استقر في الأذهان بأنك لاتكتب منتقدا إلا إذا كانت لك خصومة مع الشخص أو الموضوع محل النقد، ولكن من قال ذلك؟ لماذا لا أكتب منتقدا لمجرد ممارسة حقي في الاختلاف؟ لماذا لا أفكر خارج الصندوق في تمرد على المألوف؛ لأقول بأنني مختلف، وفي ذات الوقت متجردا لست في نزاع شخصي ولا أكتب من نافذة مصلحة ابتز بما أكتب طرفا ثالثا؟ هل أكتب هنا عبثا؟ ربما، والعبث بعض الجنون، والجنون فنون، وهو أشد قرابة للإبداع. لكني قد لا أكون عابثا، ولا مترصدا ولا متصيدا وإنما لي رأي أرغب في التعبير عنه بما رأيته مناسبا. وفي ذات النمط، يمكن أن بواقع أتألم من وطأته ويئن قلبي ألما من قسوته، لكنني أجد فيه ما يمكن الثناء عليه. فهل أنا هنا أكتب بقلم الآخرين أو اتزلف لمن أتوقع أنه سبب شقائي؟ أم أنني أمارس قناعة شخصية أحاول من خلالها التوافق مع القاعدة الشرعية في العدل مع الآخر تحت مظلة (ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا، اعدلوا هو أقرب للتقوى). أنا في الصورة الأولى خرجت عن المألوف، وفي الثانية خرجت عن المألوف، فقد كتبت في الموقفين قناعة مني دون أن يكون لموقف المكتوب عنه أثر في ما كتبت، وهنا يمكن الإحالة إلى "إن أردت إلا الإصلاح" في المنشط والمكره. وهذا ليس تجردا من بشريتي، ولكنه إرغام للنفس على مالاتهوى في سبيل الحق والعدل. وهما نمطان يخالفان المألوف ويخرجانني من قالب الإمّعة إلى فضاء استقلال الرأي، وسمو النفس، ويشبعان في أعماقي الشعور بأنني أمارس خياراتي دونما وصاية من حب أو كره يعميان البصيرة. ولجمال الدين الأفغاني، قول في الذين يجرأون على مخالفة المألوف يرى فيه:" إن مخالفة المألوف أمر عظيم، وما تحتاج إليه من الجرأة وعلو الهمة أكبر وأعظم.. ولا تصدق أن أحداً من البشر! يُمكنه تخطي المألوف، وتسهل عليه مخالفته، فهناك عقبة كؤود، وهوة هائلة، لا يجتازهما إلا فحول الأبطال ونوابغ الرجال". عندما كانت الأفواه شبه مكممة، كان الذين يجأرون بنقد الحال والتمرد عليه أبطالا حقيقيين لأنهم قالوا مالم يطق تبعاته الآخرون، ولكنهم كانوا قلة وعانوا في سبيل ما أعلنوا، ولا نظن بهم إلا خيرا، على اعتبار أن الإنسان -عطفا على ما سبق- يمكن أن يعبر عن رأي مختلف دون أن يضمر شرا في نفسه. أولئك خلّد أسماءهم التاريخ لأنهم لم يكونوا مع السواد الأعظم، وخرجوا عن المألوف، ومن كان يكتب لأنه على قناعة بما يكتب معارضا ما استقرت عليه الأقلام وتواضعت عليه الأفهام، دون تفكير في أية عواقب فإنه بقي رمزا للشجاعة والريادة. والآن وبعد أن فتح فضاء النقد، مهنة ولعبة في آن واحد، ولم يعد يقبل غير النقد وسيطرت على العامة والخاصة عادة التنكر والإنكار وساد رأي بعدم الرضا؛ يكون قد صُنِع واقع مختلف إلى درجة التضاد مع ماكان متعارفا عليه من قبل. فهل سيفرز أبطالا للمرحلة؟ أبطالا يطيقون مخالفة المألوف بامتطاء صهوة الموضوعية والعدل وإن خالفهم من خالف أو أنهكوا أجسامهم في السباحة عكس التيار؟ الذين يكتبون في هذا الواقع بأدوات الماضي لا يدركون أنهم الان غير مختلفين عن السواد الأعظم وهم لايميزون أنفسهم أو يمارسون قناعاتهم وإنما هم أسرى لوطأة الواقع وسطوة المألوف. والذين كانوا إلى عهد قريب يعتبرون أبواقا ومحامين للشيطان هم اليوم ندرة؛ وتعتبر كتاباتهم وطروحاتهم في بيان الحق وإن خالف أهواء غالبية من حولهم، ويسطرون ريادة وبطولة.
مشاركة :