حتى وإن تظاهر معظمنا في دول الخليج برباطة الجأش فهناك خوف مبرر مما يجري في محيطنا، وسبب ذلك أن دول مجلس التعاون استثمرت الكثير في بناها التحتية وفي تأهيل مواطنيها وتنمية الموارد البشرية وأنفقت ترليونات الدولارات على التنمية المستدامة الشاملة والمتوازنة، كما حققت لها سمعة عالمية في الاستقرار والنمو وأصبحت جاذبة لكثير من الاستثمارات العالمية الكبرى في عدة مجالات. الخوف أو القلق مما يجري في الجوار ليس لهشاشة في البناء السياسي ولا لقوة الخصم الذي يتهددنا ولا لضعف في قدرتنا في الدفاع عن مكتسباتنا، ولكن لأن أي اضطراب يحدث في أطراف العالم يؤثر على هذه البقعة الحساسة من الكون. وهو إلى جانب ذلك يخلق أعباء مالية ترهق الميزانيات وتعطل مسيرة النماء وينصرف الناس إلى مراقبة ما يجري والتوجس من تقلبات الأحداث ساعة بساعة مما يربك حالة الاستقرار ويزيد الحياة تعقديا. حروب تدور في دول مجاورة بالطرق التقليدية، ولأول مره أشاهد دبابات (تفحط) في وسط ميادين المدن العراقية في استهتار كامل بالدماء التي حرم الله إراقتها إلا بالحق، وذلك يعني أن الحرب التقليدية التي تدور رحاها تدور بين دول وبين كيانات هلامية لايمكن فرض عقوبات عليها ولا ضرب قواعدها العسكرية، ولا رصد تحركاتها فهي شبكات إرهابية تتوغل داخل المجتمعات المدنية وهو الفخ الذي وقع فيه المالكي عندما هاجم ميادين الموصل لأنه قيل إن هناك ثلاثين إرهابياً ضمن ملايين المتظاهرين ضده. إلى جانب الحرب التي تدور في العراق وسوريا هناك حرب افتراضية تدور رحاها على شبكات التواصل الاجتماعي تستهدف دول الخليج المستقرة من خلال الإشاعات والحشد واستخدام بعض المتهورين ومن لهم مظالم شخصية. ويشهد التاريخ الحديث أن الجماعات الإرهابية وأتباعها استخدموا وسائل التواصل الاجتماعي بشكل أكثر فعالية من الدول التي تتعامل بلامبالاة مع هذه الحروب الفضائية بالتهوين من خطرها على أمن واستقرار دول مجلس التعاون. وإذا كانت الدول عندما تتعرض للخطر تستخدم كل مقوماتها للحفاظ على أمن مواطنيها والمقيمين فيها؛ فإنني أستغرب عدم اتخاذ دول الخليج قرارات تُجرّم مفردات العنف والتجييش والتحزب ولجم بعض المحسوبين عليها ممن يستخدمون وسائل التواصل الاجتماعي والمنتديات الإلكترونية بطريقة خبيثة فيها الكثير من التشفي والتسفيه والاستعداء. هناك تجارب لدول أكثر ديمقراطية وحرية من دولنا؛ عندما تعرضت للخطر استخدمت المباح وغير المباح في تقييد الحريات والاعتقالات التعسفية بين مواطنيها، والكل يتذكر ماحدث لليابانيين في أمريكا بعد هجوم (آن آربر)، وما حدث للجالية العربية المسلمة، بل وللأمريكيين عموما ويحصل منذ انتفاضة الأقصى عام 2000م وظهور قانون المواطنة (باتريوت آكت)، وحجب الأخبار القادمة من أفغانستان أواخر عام 2001م عن وسائل الإعلام الأمريكية، ونظام التجسس على المعلومات والبريد الإلكتروني والرسائل النصية التي تتداول داخل أمريكا وعبر فضائها. كما تعرف القنوات العربية حجم المعاناة مع الأمريكيين ليسمحوا لهم بالبث عبر الفضاء إلى أراضيها، وموقف الإعلام البريطاني الموحد أثناء حرب الفوكلاند، وبعد تفجيرات لندن وإيقاف الكثير من المسلمين على خلفيتها، مرورا بجيراننا الأتراك الذين أوقفوا تويتر واليوتيوب حتى قضوا مآربهم من الإيقاف، ناهيك عن الصين وإيران وتحكمهما الكامل في مواقع التواصل الاجتماعي. كل هذه التجارب في دول ديمقراطية وأخرى شمولية، لاتشجعنا في الخليج على اتخاذ خطوات مصيرية للحفاظ على أمننا من هذه الحرب الافتراضية التي تشن على عقولنا بلاهوادة، فلماذا؟ هل نخاطر بأمننا لإرضاء دول تصادر الحريات بمجرد احساسها بالخطر. تلك الدول لم نرق لها في يوم رغم محاولاتنا التقرب، كما لم تسؤها إسرائيل رغم وحشيتها وعنصريتها. هذا ليس تحريضا على انتقاص الحريات، ولكنه دعوة لتحميل كلٍ مسؤولية كلمته، والتعامل مع الخطر بما يتناسب ومستوى تهديده لأمن الخليج، وعدم المغامرة بالمكتسبات من أجل ثناء متوهم. ليس من شك أن الحرص واجب، ولكن لا ينبغي أن يؤدي ذلك إلى فوبيا تحتل نفوس الناس وتسيطر على تفكيرهم، فالمملكة مثلا تعرضت لما هو أخطر مما تتعرض له الآن، وكانت حينها في مرحلة التأسيس عندما تكالبت عليها دول عديدة منها هولندا وبريطانيا دعما لتمردات حدثت في الجنوب والشمال، ثم استهدفها المد العروبي التقدمي وجند من أبنائها على مختلف المستويات إلى درجة حصول انشقاقات لا تخفى على أحد، ومع ذلك صمدت، وتعرض جنوبها لقصف الطيران في مدن أبها ونجران، وكان توجيه الملك فيصل حينها بكلمة واحدة (اطردوهم) ولم يقل حاربوهم، ومرت بنا فترات عصيبة إبان احتلال صدام للكويت، وخرجت بلادنا من كل أزمة وهي بخير بحمد الله. ولذلك فالقلق أو الخوف ليس على الكيانات الخليجية وإنما على ما تحقق لها من منجزات، فأي بلبلة في المنطقة لاشك أنها ستؤثر على الخطط التنموية، وأخطر من ذلك فإن الحروب التي تشن عليها بقوة الكلمة والمعلومة لا يمكن التنبوء بما تصنع لأنها تنخر في القناعات بشكل غير ملموس، وهذا هو الخطر بعينه.
مشاركة :