اعتليت المنبر وأمامي جماهير متلهفة لتسمع برنامجي الانتخابي أو بماذا سأعدهم وأتعهد لهم، وإذا بي أبدأ باليمين الغموس بأنني ابنهم البار الذي لا يخون ولا يحيد عن مصالحهم ومستقبل أبنائهم، واسترسلت لأكيل التهم للحكومة وتقاعسها وعدم اهتمامها بصحتهم وتعليمهم وسوء خدماتها وطرقها وعجزها وفسادها، وأنني سأحاسبها، كما أنني سأحل كل مشاكل المواطنين من خلال تشريعات وقوانين سأتقدم بها بعد نجاحي، والجمهور يصفق ومتحمس لي، فانتهزت فرصة حماسهم، وإذا بي أقذف بعقالي وغترتي عليهم وأصرخ: لا تتركون كرسي القبيلة تكفون يا أبناء عمي تكفون ياطيور شلوة تكفون يا محزمي وعصابة راسي، وإذا بالغتر والعقل تتقاذف علي وكأنني المنتصر فاتح القدس. وبعد أن نجحت وأصبحت نائباً للأمة أقصد للقبيلة صدمت بحياة أخرى، حيث الحكومة تبحث عن رضاي والتجار يستجدونني، ومؤسسة الفساد تقدم لي العروض تلو الأخرى على أن أكون معهم مطيعاً مفيداً أخدمهم، ولا أقف في طريق مصالحهم مقابل أن أحصل على علاج بالخارج لناخبيّ وتسهيل معاملاتهم وبعض التعيينات البراشوتية، أما أنا فالمال والمناقصات والجاه لي فطلبت منهم فرصةً للتفكير، وجلست مع من ساندني وأدار حملتي من المقربين لي فلم أجد منهم من اعترض على هذا العرض، بل قالوا إني مجنون لو رفضت. قبلت العرض وأنا خائف من ردة فعل الناخبين، وإذا بي أجد الناخب لا يكترث إلا بمعاملته وإنجازها، ولا يتابع ما وعدته به، ولا يكترث لتصويتاتي بالمجلس، فتضخم رصيدي وتضخمت معاملاتي، وأصبح المديح لي أسمعه بصورة لم أعتد عليها بأنني المخلص لكل ما هو صعب ومستحيل، وازدادت شعبيتي، وأصبح حتى من لم يصوت لي يبحث عن أحد يوصله لي، وما إن اقتربت نهاية الدورة البرلمانية، وأصبحت الانتخابات قاب قوسين وأدنى حتى بدأت بتقديم المساعدات المالية لمن هو محتاج، وأتجول في الدواوين وسط استقبال الفاتحين، وكأنني لم أخن الأمانة ولا أنقض لهم وعداً وعهداً، إلى أن سمعت صوتاً يوقظني، وإذا به جرس التلفون الذي أفاقني من حلم مزعج لم يخطر ببالي. يعني بالعربي المشرمح: ما شاهدته بالحلم هو واقع مر ومؤلم نعيشه في ظل قانون الانتخاب الحالي، الذي جعل من النائب مجرد مخلص لمعاملات ناخبيه، في حين تتضخم أرصدته وعماراته على حسابهم وحساب العمل الدستوري والتشريعي، ونعيش حالةً من التحلطم والندم لنعيد الكرّة مرة أخرى حتى لا نخسر كرسي القبيلة أو الطائفة أو العائلة، وفي المقابل نخسر وطناً ومستقبلاً، ونعض أصبع الندم بما اقترفناه بأيدينا.
مشاركة :