نالت البيئة من طه حسين مرتين، المرة الأولى حين حرمته من بصره وهو صبى صغير، والمرة الثانية حين حرمته بهجة نجاحه بتقديمِ بحثٍ فريدٍ ومتميز وهو مفكر كبير، ذلك البحث الذى عنوانه: «في الشعر الجاهلى». إن تخلف بيئته الاجتماعية جنى عليه في المرة الأولى، وتخلف بيئته الثقافية جنى عليه في المرة الثانية.ويُعَدُّ كتاب «في الشعر الجاهلى» للدكتور طه حسين من الكتب التى ستظل مثار الاهتمام والجدل، فرغم مرور أكثر من 90 عامًا على صدوره، إذ صدر سنة 1926، فإنه يمثل نقلة كبرى في تاريخ الثقافة العربية الحديثة، إذ فتح آفاقًا واسعة للتأمل والجدل وإعمال العقل. حقيقة الأمر أن طه حسين أراد أن يدرس مسألة الشعر الجاهلى، فاتخذ من الشك منهجًا له، وتساءل: أهناك شعر جاهلى؟ فإذا كان هناك شعر جاهلى، فما السبيل إلى معرفته؟ وما هو؟ وما مقداره؟ وبمَ يمتاز عن غيره؟ ويمضى في طائفة من الأسئلة تحتاج إلى رؤية وجهد للإجابة عنها. وهو لا يطمئن إلى ما قاله القدماء عن الشعر الجاهلى، بل يواجه ما قاله القدماء بالتحفظ والشك. يدرك عميد الأدب العربى، منذ الوهلة الأولى، أن هذا النهج من الشك الذى ينتهجه قد يؤدى إلى تغيير التاريخ، أو ما اتفق الناس على أنه تاريخ. وقد ينتهى به المطاف إلى الشك في أشياء لم يكن مباحًا الشك فيها. (طه حسين، في الشعر الجاهلى، مطبعة دار الكتب المصرية، القاهرة، 1926، ص 6).والمُحْزِن والمُخزِى في الوقت ذاته، أن هذا النهج من الشك قد انتهى بطه حسين إلى المثول أمام النيابة بتهمة الطعن على الدين الإسلامى في مواضع أربعة من كتابه:الأول: إنَّ المؤلف أهان الدين الإسلامى بتكذيب القرآن الكريم في أخباره عن إبراهيم وإسماعيل حيث ذكر في ص 26 من كتابه «للتوراة أن تحدثنا عن إبراهيم وإسماعيل، وللقرآن أن يحدثنا عنهما أيضًا. ولكن ورود هذين الاسمين في التوراة والقرآن لا يكفى لإثبات وجودهما التاريخى، فضلًا عن إثبات هذه القصة التى تُحَدثنا بهجرة إسماعيل بن إبراهيم إلى مكة، ونشأة العرب المستعربة فيها، ونحن مضطرون إلى أن نرى في هذه القصة نوعًا من الحيلة في إثبات الصلة بين اليهود والعرب من جهة، وبين الإسلام واليهود والقرآن من جهة أخرى» إلى آخر ما جاء في هذا الصدد.الثانى: ما تعرض له المؤلف في شأن القراءات السبع المجمع عليها والثابتة لدى المسلمين جميعًا، وأنه في كلامه عنها يزعم عدم إنزالها من عند الله، وأن هذه القراءات إنما قرأتها العرب حسب ما استطاعت لا كما أوحى الله بها إلى نبيه، مع أن معاشر المسلمين يعتقدون أن كل هذه القراءات مروية عن الله تعالى على لسان النبى صلى الله عليه وسلم.الثالث: ينسبون للمؤلف أنه طعن، في كتابه، في النبى صلى الله عليه وسلم طعنًا فاحشًا من حيث نسبه، فقال في ص 72 من كتابه: «ونوعٌ آخر من تأثير الدين في انتحال الشعر وإضافته إلى الجاهليين، وهو ما يتصل بتعظيم شأن النبى من ناحية أسرته ونَسَبه إلى قريش، فلأمر ما اقتنع الناس بأن النبى يجب أن يكون صفوة بنى هاشم، وأن يكون بنو هاشم صفوة بنى عبد مناف، وأن يكون عبد مناف صفوة بنى قصى، وأن يكون قصى صفوة قريش، وقريش صفوة مضر، ومضر صفوة عدنان وعدنان صفوة العرب، والعرب صفوة الإنسانية كلها». وقالوا إن تعدى المؤلف بالتعريض بنسب النبى صلى الله عليه وسلم والتحقير من قدره تَعدٍّ على الدين، وجرم عظيم يسىء إلى المسلمين والإسلام، فهو قد اجترأ على أمر لم يسبقه إليه كافر ولا مشرك.الرابع: إن الأستاذ المؤلف أنكر أن للإسلام أولية في بلاد العرب، وأنه دين إبراهيم، إذ يقول في ص80: «أما المسلمون فقد أرادوا أن للإسلام أولية في بلاد العرب كانت قبل أن يُبْعَث النبى، وأن خلاصة الدين الإسلامى وصفوته هى خلاصة الدين الحق الذى أوحاه الله إلى الأنبياء من قبل».. إلى أن يقول في ص81: «وشاعت في العرب أثناء ظهور الإسلام وبعده فكرة أن الإسلام يجدد دين إبراهيم، ومن هنا أخذوا يعتقدون أن دين إبراهيم هذا قد كان دين العرب في عصر من العصور، ثم أعرضت عنه لما أضلها به المضلون وانصرفت عنه إلى عبادة الأوثان».. إلى آخر ما ذكره في هذا الموضوع.وقد كتب الأستاذ محمد نور رئيس نيابة مصر الذى أجرى التحقيق مع الدكتور طه حسين معقبًا على هذه الاتهامات:«إن العبارات التى يقول المبلغون إن فيها طعنًا على الدين الإسلامى، إنما جاءت في كتابٍ في سياق الكلام عن موضوعات كلها متعلقة بالغرض الذى ألف من أجله، فلأجل الفصل في هذه الشكوى لا يجوز انتزاع تلك العبارات من موضعها والنظر إليها منفصلة، وإنما الواجب توصلًا إلى تقديرها تقديرًا صحيحًا؛ بحثها حيث هى في موضعها من الكتاب ومناقشتها في السياق الذى وردت فيه، وبذلك يمكن الوقوف على قصد المؤلف منها، وتقدير مسئوليته تقديرًا صحيحًا».وبعد انتهاء التحقيقات مع طه حسين، يسجل الأستاذ محمد نور رئيس نيابة مصر، حيثيات حكمه بحفظ الموضوع إداريًا، فيقول:«فيجب إذن لمعاقبة المؤلف أن يقوم الدليل على توفر القصد الجنائى لديه. بعبارة أوضح يجب أن يَثْبُت أنه إنما أراد بما كتبه أن يتعدى على الدين الإسلامى، فإذا لم يثبت هذا الركن فلا عقاب».«أنكر المؤلف في التحقيقات أنه يريد الطعن على الدين الإسلامى، وقال إنه ذكر ما ذكر في سبيل البحث العلمى وخدمة العلم لا غير، غير مقيد بشىء، وقد أشار في كتابه تفصيلا إلى الطريق الذى رسمه للبحث. ولابد هنا من أن نشير إلى ما قرره المؤلف في التحقيق من أنه كمسلم لا يرتاب في وجود إبراهيم وإسماعيل وما يتصل بهما مما جاء في القرآن، ولكنه كعالِم مضطر إلى أن يذعن لمناهج البحث فلا يُسَلِّم بالوجود العلمى التاريخى لإبراهيم وإسماعيل، فهو يُجَرد من نفسه شخصيتين. وقد وجدنا المؤلف قد شرح نظريته هذه شرحًا مستفيضًا في مقال نشره بجريدة السياسة الأسبوعية بالعدد 19 الصادر في 17 يوليو سنة 1926 ص5 تحت عنوان (العلم والدين)، وقد ذكر فيه بالنص: (فكل امرئ منا يستطيع إذا فكر قليلًا أن يجد في نفسه شخصيتين متمايزتين، إحداهما عاقلة تبحث وتنقد وتحلل وتغير اليوم ما ذهبت إليه أمس، وتهدم اليوم ما بنته أمس، الأخرى شاعرة تلذ وتألم وتفرح وتحزن وترضى وتغضب وترغب وترهب في غير نقد ولا بحث ولا تحليل، وكلتا الشخصيتين متصلة بمزاجنا وتكويننا لا نستطيع أن نخلص من إحداهما، فما الذى يمنع لأن تكون الشخصية الأولى عالِمة باحثة ناقدة، وأن تكون الشخصية الثانية مؤمنة مطمئنة طامحة إلى المثل الأعلى) ». (خيرى شلبى، محاكمة طه حسين، القاهرة، 1993، ص ص 95 – 96).
مشاركة :