لا يخشى طه حسين على القرآن من هذا النوع من الشك والهدم بأسًا؛ فهو لا يتفق مع أولئك الذين يعتقدون أن القرآن في حاجة إلى الشعر الجاهلى لتصح عربيته وتثبت ألفاظه. يخالفهم في ذلك أشد الخلاف لأن أحدًا لم ينكر أن العرب قد فهموا القرآن حين سمعوه تتلى عليهم آياته. وإذا لم ينكر أحد أن النبى عربىّ، وإذا لم ينكر أحد أن العرب قد فهموا القرآن حين سمعوه، فأى خوف على عربية القرآن من إثبات أن هذا الشعر الجاهلى منتحل ومختلق؟ وليس بين أنصار القديم أنفسهم من يستطيع أن ينازع في أن المسلمين قد احتاطوا أشد الاحتياط في رواية القرآن وكتابته ودرسه وتفسيره حتى أصبح أصدقَ نصٍّ عربى قديم يمكن الاعتماد عليه في تدوين اللغة العربية وفهمها. وهم لم يحفلوا برواية الشعر ولم يحتاطوا فيها، بل انصرفوا عنها في بعض الأوقات طائعين أو كارهين، ولم يراجعوها إلا بعد فترة من الدهر وبعد أن عبث النسيان والزمان بما كان قد حفظ من شعر العرب في غير كتابة ولا تدوين. فأيهما أشد إكبارًا للقرآن وإجلالًا له وتقديسًا لنصوصه وإيمانًا بعربيته: ذلك الذى يرى أن القرآن وحده هو النص الصحيح الصادق الذى يستدل بعربيته القاطعة على تلك العربية المشكوك فيها، أم ذلك الذى يستدل على عربية القرآن بشعر كان يرويه وينتحله في غير احتياط ولا تحفظ قوم منهم الكذاب ومنهم الفاسق ومنهم المأجور ومنهم صاحب اللهو والعبث؟ (طه حسين، في الشعر الجاهلى، ص ص 182 – 183) يقول طه حسين نحن مطمئنين إلى مذهبنا، مقتنعين بأن الشعر الجاهلى، أو كثرة هذا الشعر الجاهلى لا تمثل شيئًا ولا تدل على شىء إلا العبث والكذب والانتحال. إذا كان لا بد لنا أن نستدل بنص على نص؛ فيجب أن نستدل بنصوص القرآن على عربية هذا الشعر لا بهذا الشعر على عربية القرآن. (طه حسين، في الشعر الجاهلى، ص 183) يرى طه حسين أنه ينبغى أن يتعود الباحث دراسة تاريخ الأمم القديمة، ليفهم تاريخ الأمة العربية على وجه صحيح. وإذا كان هناك شىء يُعَاب على الذين كتبوا تاريخ العرب وآدابهم، فهو أنهم لم يكونوا على دراية كافية بتاريخ هذه الأمم القديمة، ولم يقارنوا بين الأمة العربية والأمم القديمة السابقة عليها. ونظروا إلى الأمة العربية بوصفها أمة فذّة لم تعرف أحدًا ولم يعرفها أحدٌ، ولم تشبه أحدًا ولم يشبهها أحدٌ، لم تؤثر في أحد ولم يؤثر فيها أحدٌ. لكن لو أن الذين كتبوا عن تاريخ العرب قد اهتموا بدراسة تاريخ الأمم القديمة وقارنوا بين تاريخ تلك الأمم وبين تاريخ العرب؛ لأدى هذا إلى تغير تاريخ العرب أنفسهم. ولم يذكر طه حسين من هذه الأمم القديمة إلا أمتين اثنتين: الأمة اليونانية والأمة الرومانية. وقد رأى أن هاتين الأمتين خضعتا في العصور القديمة لظروف مماثلة ومشابهة لما مرت به الأمة العربية في العصور الوسطى. (ص ص 42 – 43)هذه الظاهرة الأدبية- ظاهرة الانتحال- هى في رأى طه حسين؛ ليست مقصورة على الأمة العربية، وإنما تتجاوزها إلى غيرها من الأمم القديمة، ولا سيما هاتين الأمتين الخالدتين «اليونانية» و«الرومانية». فليست الأمة العربية هى أول أمة انتُحِلَ فيها الشعر انتحالًا وحُمِلَ على قدمائها كذبًا وبهتانًا، وإنما انتُحِلَ الشعر في الأمة اليونانية والرومانية من قبل وحُمِلَ على القدماء من شعرائهما. غير أن النقّاد هناك استطاعوا تصحيح الأمور، وقاموا برد الأشياء إلى أصولها الصحيحة. وكان ذلك بفضل اتباعهم المنهج العلمى الصحيح الذى يدعونا إليه طه حسين. (ص 44)وبسبب الأخذ بالمنهج الحديث في البحث اختلف حديث الباحثين المحدثين في الغرب عن تاريخ الشعر والأدب اليونانى والرومانى عن حديث القدماء منهم. في حين أننا لا نكاد نجد فرقًا بين ما كان يكتبه القدماء من الباحثين العرب الذين كتبوا تاريخ العرب وآدابهم، وما يكتبه المعاصرون لنا اليوم من الباحثين العرب عن ذلك التاريخ. يقول طه حسين موضحًا: «لكنك لا تكاد تجد فرقًا بين ما كان يتحدث به ابن إسحاق، ويرويه الطبرى من تاريخ العرب وآدابهم، وما يكتبه المؤرخون والأدباء العرب في هذا العصر. ذلك لأن الكثرة من هؤلاء المؤرخين والأدباء لم تتأثر بعد بهذا المنهج الحديث (يقصد المنهج الديكارتى)، ولم تستطع بعد أن تؤمن بشخصيتها، وأن تُخَلِّص هذه الشخصية من الأوهام والأساطير» (ص 46). يطالبنا طه حسين باستخدام هذا المنهج حين نريد أن نتناول أدبنا العربى القديم وتاريخه بالبحث والاستقصاء. ولنستقبل هذا الأدب وتاريخه وقد برّأنا أنفسنا من كل ما قيل فيهما من قبل، وخلصنا من كل هذه الأغلال الكثيرة الثقيلة التى تأخذ أيدينا وأرجلنا ورءوسنا فتحول بيننا وبين الحركة الجسمية الحرة، وتحول بيننا وبين الحركة العقلية الحرة أيضًا. يجب علينا حين نعتزم دراسة الأدب العربى وتاريخه أن ننسى قوميتنا وكل معتقداتنا الشخصية، وأن ننسى ديننا وكل ما يتصل به، وأن ننسى ما يضادّ هذه القومية وما يضاد هذا الدين؛ يجب ألا نتقيد بشىء ولا نذعن لشىء إلا مناهج البحث العلمى الصحيح. ذلك أننا إذا لم ننس قوميتنا وديننا وما يتصل بهما، فسنضطر إلى الانحياز لرأى دون رأى، والتمسك بفكرة دون أخرى، من أجل إرضاء عواطفنا الدينية والقومية، حتى وإن كان هذا الإرضاء يتعارض مع مبادئ العلم والبحث العلمى، وسنقيد عقولنا بما يلائم هذه القومية وهذا الدين. وهل فعل القدماء غير هذا؟ وهل أفسد علم القدماء شىء غير هذا؟ كان القدماء عربًا يتعصبون للعرب، أو كانوا عجمًا يتعصبون ضد العرب؛ فلم يبرأ علمهم من الفساد، لأن المتعصبين للعرب بالغوا في تمجيد العرب وإكبارهم فأسرفوا على أنفسهم وعلى العلم؛ ولأن المتعصبين ضد العرب غلوا في تحقيرهم للعرب وإصغارهم فأسرفوا على أنفسهم وعلى العلم أيضًا. (ص 12)
مشاركة :