بائع الريحان

  • 2/20/2020
  • 00:00
  • 1
  • 0
  • 0
news-picture

عرَّجتُ عليه ذات مساء بعد أن جذبتني رائحة النباتات العطرية الجنوبية التي تنبعث من صندوق سيارته، فالبِرْك، والشذاب، والريحان، والكادي - لمن لا يعرفها - أشد العطور فتنة وجاذبيةً هناك، وهي لزوجةٍ أو أم تعادل ألف باقة ورد طائفي. ابتعتُ منه ما شئت، ووقفت - وهو يصُفُّ لي تلك الباقات - أتأملُ وجهًا مُسْمَرًّا عبثت به صروف الزمان، وخطَّت على جبينه بعض سطور الألم، والتعب، وقلة الحيلة، فقلت له مبتسمًا وممازحًا، أما آن لك أن ترتاح ياعم؛ فأنت ورغم كبر سنك، وقِلَّة جَهْدِك، تتكبَّد كل أسبوعٍ مشقة المجئ إلى هنا من مسافاتٍ بعيدة؛ لتبيع ما تحمله، وربما ما تجنيه من أرباح البيع لا يكفي حتى لمصاريف الرحلة. رفع رأسه إليَّ، ورد الابتسامة بمثلها، ثم قال: ومن أين أكسب المال، وكيف أؤمِّن لقمة العيش للعيال؟! قلت: أوَليس لك أبناء كبار يهتمون لأمرك، وينفقون عليك؟ عاد مرةً أخرى للنظر إلى ما بين يديه، وحارَ في الجواب قليلاً قبل أن يرد: لي بنتٌ متزوجة من رجل عاطل، وهي معلمة، تعطيني خمسمئة ريال كل شهر، وتصرف الباقي على زوجها وأولادها، ولي ولدان موظفان في القطاع العسكري، إن طلبتهما امتدت يداهما بالمئة، والمئتين، وإن سكتُّ عنهما تناسيا أمري. قرأتُ بين سطور حديثه ألمًا، وشيئًا من عتبٍ لا يخلو من غضب؛ فخشيت أن يحمل في نفسه على أولاده - وما أسوأ غضب الوالد وأتعس تبعاته - فقلت مواسيًا ومعتذرًا عنهم: لا تغضب ياعم، ولا تحمل في نفسك على أبنائك؛ فالحياة صعبة، والراتب لم يعد يغطي المتطلبات، ولا يكفي للمستلزمات. هزَّ رأسه الذي مازال مطأطأً يتلمَّس حركة يديه وهما تحزمان الباقات، وقال في غير اقتناعٍ: ربما. حملت مشترياتي، وركبت سيارتي، وقد فتح الحديث مع ذلك الرجل في رأسي ألف قضية؛ تبدأ بانشغالنا عن أبوين أكرَما في الصغر، وطواهما النسيان في الكبر، ولَمَحَ أمام ناظري على عجل (أنت ومالك لأبيك)، فكيف سمحنا لأنفسنا أن ننشغل عن رعايتهما، وتفقد أحوالهما، وكيف استأثرنا بأموالنا عنهما ثم قمنا نولول، ونشتكي قلة بركة المال، وسوء تربية العيال، بل كيف سقط الحياء عن وجوهنا ونحن نسكن الفلل، ونلبس أنظف الثياب وأجمل الحلل، وهما إلى جوارنا، تحت أسقف بيوتٍ خرِبة، يظهرون أمام الناس بثيابٍ مهلهلةٍ ترِبَة. كم نحن ناكرون للجميل؛ حينما ذبلت زهرة شبابهما وهما يشقيان لنسعد، وكم نحن جاحدون للمعروف؛ إذ نكمِّلُ ونجمِّلُ بما يفيضُ بين أيدينا من مال، دون أن يكون لهما نصيبٌ منه وقد كانا يبيتان طاويين لنشبع. وانتهى بي التفكير في ذاك الذي سمح لامرأةٍ أن تصرف عليه وعلى أولاده، وهو يتبطح على فراشه، ويتنقل بين استراحات أصدقائه، عاطلٌ باطل، وبطنٌ طافحةٌ زائدةٌ بلا فائدة، حجته: لم أجد عملاً، ولو امتلأ وجهه حياءً وخجلا؛ لاحتطب وباع ولم يتخذ من المرأة بدلا. لك الله يا بائع الريحان، ولمثلك ممن زجَّت بهم الحياة على رصيف النسيان.

مشاركة :