قراءة في مؤتمر ميونيخ للأمن 2020

  • 2/22/2020
  • 01:00
  • 3
  • 0
  • 0
news-picture

لا تزال قضايا الأمن تمثل أولوية قصوى لدى صناع القرار والمشتغلين بالعمل الدبلوماسي، ومنها قضايا الشرق الأوسط، ويدل على ذلك ما شهده مؤتمر ميونيخ للأمن 2020 في نسخته السادسة والخمسين، والذي عقد في الفترة من 14 – 16 فبراير، حيث اجتمع نحو 500 من صناع القرار، وبمشاركة أكثر من 30 رئيس دولة وحكومة و80 وزيرًا للدفاع والخارجية. وكان الانعقاد الأول للمؤتمر عام 1963، والذي يعد أحد المنصات العالمية للحوار ومناقشة سياسة الأمن الدولية، بشكل غير رسمي، وكان قاصرًا في البداية على دول التحالف الغربي، لكنه الآن ينعقد بتركيبة متنوعة تمتد إلى كل قارات العالم، ومنها دول كبيرة وصغيرة، ومتقدمة ونامية، فكما نجد الولايات المتحدة نجد أيضًا الصين وأوكرانيا ودول إفريقية وآسيوية.ويجذب مؤتمر ميونيخ للأمن العديد من الشخصيات السياسية الكبيرة في العالم، الذين يجدون فيه فرصة لعرض رؤاهم أو الخطوط العريضة لسياساتهم المستقبلية، والتي كان من بينها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، ورئيس الوزراء الكندي جوستن ترودو، ورئيس الوزراء الكويتي الشيخ صباح خالد الحمد الصباح، ورئيس الوزراء الفلسطيني محمد أشتيه، فيما اشتمل الوفد الأمريكي على نحو 40 شخصية سياسية بارزة من الحكومة والكونجرس، من بينهم نانسي بيلوسي رئيسة مجلس النواب، ووزير الخارجية مايك بومبيو، ووزير الدفاع مارك اسبر، كما حضره الأمناء العامون للأمم المتحدة وللناتو وجامعة الدول العربية، ووزراء خارجية كل من روسيا والسعودية ومصر والإمارات وعمان وقطر والأردن، وإيران والصين والهند.وكما هو معلوم في تقاليد انعقاد المؤتمر، فإنه يجري اختيار قضية أو شعار تتمحور حوله النقاشات، وفي هذا العام كانت القضية المختارة هي «أفول التأثير الغربي» (Westlessness)، وهو مفهوم يعبر عن شعور واسع بعدم الارتياح والقلق في مواجهة ما ينتاب دور الغرب. غير أنه في بعض الأحيان يتم تجاوز القضية المختارة تحت ضغط قضايا أخرى أكثر إلحاحًا من قبل صناع السياسة. وفضلاً عن القضية الأمنية الرئيسية، تناولت أعمال المؤتمر القضايا الأمنية في مناطق العالم المختلفة ومنها قضايا الشرق الأوسط، والنظام الليبرالي الدولي، والخلافات التجارية العالمية، والتغير المناخي، والأمن السيبراني، والتنافس الاقتصادي والتكنولوجي بين الدول العظمى، والسياسات الأمنية للاتحاد الأوروبي، والسياسات الخارجية والدفاعية لمناطق مختلفة في العالم.ولسنوات طويلة كان مؤتمر ميونيخ رمزًا قويًا للتحالف الغربي، ولكنه في نسخته الحالية بدا أكثر انشقاقا وتباينا بين أعضائه، وظهر ذلك من انسحاب واشنطن من الاتفاق النووي ومن معاهدة القوى النووية المتوسطة والصغيرة، والحرب التجارية بينها وبين الصين، فضلا عن النظر إلى الأخيرة كخطر أمني، وما حدث بشأن التعامل مع شركة هواوي. ومع ذلك فإن كثيرا من المتحدثين الأوروبيين لم يتفقوا مع واشنطن في أن بكين تمثل تهديدًا استراتيجيا، وانتقدوا السلوك الأمريكي في الضغط على أوروبا لتقليص تعاملها مع الصين، بل هاجموا سياسة ترامب الخارجية القائمة على مبدأ أمريكا أولاً ورفض مفهوم المجتمع الدولي. وذكر الرئيس الفرنسي صراحة أن «ما تريده أوروبا ليس هو ما تريده واشنطن». ودعا الرئيس الألماني «فرانك وولتر اشتنماير»، إلى «التضامن الأوروبي لحماية المصالح الأوروبية في مواجهة الانقسام عبر الأطلنطي». وإلى جانب هذا الانقسام في المعسكر الغربي برزت قضايا أخرى نالت حظًا وافرًا من المناقشات، في مقدمتها انتشار وباء كورونا في الصين والتأثير الجيوسياسي له، وعلاقات روسيا بالناتو وشرق أوروبا. وعلى الرغم من أن مؤتمر ميونيخ للأمن 2020 كان يهيمن عليه مناقشة العديد من القضايا، مثل التحالف عبر الأطلسي، والعلاقات المتوترة بين الولايات المتحدة والصين، وغيرها من القضايا ذات الصلة بالمخاطر المتعلقة بتلاشي الهيمنة الغربية على الصعيد الدولي ونمو التأثير الروسي، فإن قضايا الشرق الأوسط قد فرضت نفسها على جدول أعمال المؤتمر ومناقشاته بقوة وذلك للارتباط الوثيق بين أمن الشرق الأوسط والأمن الأوروبي، وقوة المصالح الأوروبية الاستراتيجية والاقتصادية في هذه المنطقة الحساسة من العالم. ومن هذه القضايا قضية إيران، وإمكانية تخفيض التوتر بينها وبين المملكة العربية السعودية، ولذلك عقدت في ثاني أيام المؤتمر «15 فبراير»، جلسة خاصة لهذا الموضوع شارك فيها وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف، ونظيره السعودي الأمير فيصل بن فرحان آل سعود، ولم يعبر أي من الطرفين عن أي رغبة في الدخول في مفاوضات مع الآخر. وقال وزير الخارجية السعودي إنه ينبغي على إيران أولاً أن تغير سلوكها، وقبل ذلك فلا جدوى من أي محادثات، وظل كل طرف على موقفه من دون تغيير، ولم تجد الجهود التي بذلتها عُمان التي تحظى بعلاقات جيدة بالطرفين طريقها للتوفيق، كما صرح بذلك وزير الخارجية العماني يوسف بن علوي في المؤتمر.كما تم تناول قضية الأمن البحري في الخليج، والتي لا تشمل دول الخليج فقط، ولكن أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية، وبادرت ألمانيا بالحديث عن تأمين خطوط الملاحة في مضيق هرمز، عنق الزجاجة في تأمين المعروض العالمي النفطي، ويأتي هذا بعدما تعرضت ناقلات نفط لاعتداءات من قبل إيران في العام الماضي. وصرح وزير الدفاع الألماني بأن ألمانيا ستدعم قيام الاتحاد الأوروبي بمهام الحماية البحرية في المضيق، التي استهلتها فرنسا بالفعل، وتبدو هذه المبادرة على درجة عالية من الأهمية. وبالفعل فإن الولايات المتحدة وبريطانيا وأستراليا ومملكة البحرين مع دول خليجية أخرى تقوم بتسيير دوريات بحرية في المنطقة فيما تدعي إيران أن مثل هذه الأعمال موجهة ضدها وأن إضافة طرف ثالث بقيادة دول أوروبية يوسع مجال الحوادث العرضية بين الدول التي لديها سفن في المنطقة، ما قد يشعل العداء بل الحرب.وإضافة إلى قضايا الخليج فإن الحروب الأهلية المشتعلة في كل من اليمن وسوريا وليبيا، فضلاً عن القضية الفلسطينية، قد استحوذت على اهتمامات الحاضرين، وشغل الوضع في ليبيا على وجه الخصوص اهتمامًا محوريًا لبعض الدول خاصة ألمانيا، التي سعت إلى قيادة الجهود الدبلوماسية في منطقة الشرق الأوسط، وهو الدور الذي شهد تراجعًا في ظل إدارة ترامب، بينما تقوى أدوار كل من روسيا وتركيا وإيران. وترى ألمانيا أنه على أوروبا تولي حماية مصالحها بنفسها، سواء كانت مصالح اقتصادية أو استراتيجية. وعليه، عرضت إمكانية تجديد اتفاقات وقف إطلاق النار والوصول إلى حل سياسي للأزمة الليبية، وأكدت أنها تدعم جهود الأمم المتحدة لوقف الإمداد بالسلاح للأطراف المتحاربة. وفيما عبرت العديد من الدول عن أن إنهاء الصراع في ليبيا هو هدفهم، لتداعياته الاقتصادية والسياسية والإنسانية، فإن عددا من وزراء الخارجية العرب أكدوا الحاجة للوصول إلى حل سياسي ينهي تهديدات التطرف والإرهاب، وأن الدور العربي في الجهود الدولية في ليبيا حيوي وضروري.ومع ذلك، فإن الجهود التي بذلت في هذا الشأن لم تؤت ثمارها، كما صرحت بذلك نائب المبعوث الأممي إلى ليبيا «ستيفاني وليامز»، خاصة بعد أن أصبحت مبادرة حظر الإمداد بالأسلحة للأطراف المتحاربة في ليبيا التي تم إقرارها في مؤتمر برلين في يناير الماضي مزحة لتعدد الاختراقات لهذا الحظر برا وبحرًا وجوا وأن هناك حاجة للمراقبة والمساءلة.وبالمثل، كانت الحرب الأهلية في سوريا محل نقاش المؤتمر، خاصة من قبل كل من أنقرة وموسكو، حيث عقدت جلسة لمحاولة نزع فتيل التوتر الذي نشأ بسبب الاشتباكات العسكرية الأخيرة التي أسفرت عن وقوع ضحايا في الجانب التركي والحكومة السورية المدعومة من روسيا في محافظة إدلب، واستنادًا إلى التصريحات التي أدلى بها ممثلو كل من روسيا وتركيا في المؤتمر، يبدو أن النجاح في تحقيق التهدئة يعد أمرًا بعيد المنال.وعلى الصعيد الفلسطيني، جرت اتصالات لبلورة مبادرة أوروبية عربية قد تكون بديلاً لخطة السلام الأمريكية المعروفة بصفقة القرن، وبرزت تلك المبادرة في اجتماع وزراء خارجية كل من فرنسا وألمانيا ومصر والأردن وتم بحثها في اجتماع وزراء خارجية الاتحاد الأوروبي في اليوم الأخير للمؤتمر. فيما أكد وزير الخارجية الفرنسي أن بلاده مستعدة لدعم جهود السلام بموجب القانون الدولي وقرارات مجلس الأمن والمفاوضات بين الجانبين على أساس حل الدولتين.على العموم، أبرزت نتائج عمل مؤتمر ميونيخ للأمن 2020 حاجة الاتحاد الأوروبي إلى التضامن الأمني والدفاعي، كي يمكنه المبادرة بدور أكبر في تحقيق السلام العالمي، في ضوء تراجع الدور الأمريكي في ظل الإدارة الحالية ورفضها مفهوم المجتمع الدولي، كما أبرزت الخلاف داخل التحالف الغربي بشأن التعامل مع الصين، والنظر إليها ليس كمصدر للتهديد، ولكن كمستقبل مشترك للبشرية، وضرورة مواصلة الجهود الدبلوماسية لحل قضايا الأمن الإقليمية والدولية وعلى رأسها قضايا الشرق الأوسط. وذلك للارتباط الوثيق بين أمن هذه المنطقة والمصالح الأوروبية الاستراتيجية والاقتصادية.

مشاركة :