النفط - هذه المادة النفسية - تعد اليوم أحد أهم العوامل، إن لم تكن أهمها، التي تمثل الرفاه للبشرية والتطور والنماء في جميع مناحي الحياة، وأصبحت بدون منازع قوة السياسة والاقتصاد بل والشعوب في قرن النفط المنصرم وفي هذا القرن. وستبقى السلعة التي تسلط عليها الأضواء وتصدر بشأنها البحوث والتحليلات والتقارير التي تبرز قوتها وتطورها وأهميتها ومستقبلها، ومنها التقرير الأخير الصادر عن صندوق النقد الدولي في السابع من شهر فبراير الماضي بعنوان (مستقبل النفط والاستدامة المالية في منطقة دول مجلس التعاون الخليجي). ولأن أسعار النفط هي (مربط الفرس) كما يقولون فإن الصندوق تبقى توقعاته لمستقبل إيرادات دول المجلس من نفوطها أساسها تطور أسعار سلعتها (النفط) في المستقبل المنظور. وبثقة يبدو أن الصندوق أقنع نفسه بها أكد في تقريره أن إيرادات دول المجلس ستبلغ ذروتها في عام 2048 وسيحل بعدها انخفاض الإيرادات بشكل حاد، ويرجع السبب إلى منافسة النفط الصخري للنفط التقليدي، ناهيك عن توفير وسائل بديلة للطاقة تدعم حماية البيئة. وأنا أحد المهتمين بتقارير هذا الصندوق، لكنني وإن كنت أتفق معه في بعض أطروحاته ونظرياته ونصائحه المقدمة لدول القارة السمراء والشرق الأوسط، إلا أنني لا أتفق معه كلياً وهو يلقي بنصائحه لدولنا صاحبة ثروات النفط وغيرها. أقول هذا الرأي لأن الدول الأَولى بها إصدار التقارير عن مستقبل الأسعار والإنتاج والاستهلاك والاحتياطي هي الدول المنتجة لهذه السلعة والتي تمثلها (الأوبك) و(أوابك)، فأوبك تصدر تقاريرها الدورية والسنوية ووكالة الطاقة الدولية تصدر تقاريرها الدورية والسنوية، ووزارة الطاقة الأمريكية لا تتأخر عن الركب، إضافة إلى تقارير وزارات الطاقة في الدول المنتجة للنفط والدول خارج الأوبك وشركات النفط الدولية وفي مقدمتها (أرامكو) السعودية أكبر شركة على المستوى الدولي. توقعات الوزارات والهيئات السابقة تقول إن العالم سيبلغ استهلاكه من النفط عام 2040 أكثر من (140) مليون ب/ي ارتفاعا من (100) مليون ب/ي هذا يدحض رؤى الصندوق. وإذا عرفنا أن العالم ينظر إلى دول الخليج العربي صاحبة الاحتياطي الذي كسر حاجز (800) مليار برميل، خاصة دول المجلس التي تنعم باستقرار سياسي واقتصادي ويبلغ احتياطيها المؤكد أكثر من (500) مليار برميل، هي القادرة أن تضخ أكبر عدد ممكن من براميل النفط في سوق النفط الدولية، خاصة إذا توافرت الاستثمارات المطلوبة لتطوير قطاعات النفط في هذه الدول. مصطلحات استخدمها التقرير منها رفع ضريبة القيمة المضافة في بلاد الحرمين الشريفين إلى 10 في المئة بدلا من 5 في المئة، ويسجل للمملكة كعادتها تجنيب ذلك الاقتراح، فرفاه المواطن هدف سام حددته جميع الخطط التنموية السعودية، واعتبرته الرؤية 2030 رقما مهماً جاء في صدرها. أما مصطلح حماية البيئة الذي اعتبره الصندوق فزاعة تترك أثرها على استخدام الوقود الإحفوري، الذي طبقاً لرؤية التقرير سينخفض الطلب عليه، هذه النتيجة التي توصل إليها غير مكتملة الصحة، فالبيئة وحمايتها هدف تسعى إليه دول العالم وتنادي به (بقوة) الأمم المتحدة والمنظمات الدولية، ولا ينكر أحد من الخبراء أن هناك ملوثات نفطية، تشمل كافة أشكال حياة الإنسان وكل الكائنات. لكن الذي لم يشر إليه التقرير أن خطر الفحم على البيئة أدهى وأمر من التلوث الحاصل من النفط (المسكين) الذي اتحد الكل ضده، فللفحم أضراره الواسعة على البيئة، إذ يتسبب في ظهور مشاكل عديدة من التلوث تلحق الضرر الجسيم في البيئة ويستهلك في دول صناعية عدة بعيدا عن الدول العربية خاصة دول المجلس، ورغم أهمية حماية (البيئة) إلا أن الولايات المتحدة الأمريكية انسحبت من اتفاقية باريس عام 2017 ، الأمر الذي ألقى شكوكاً حول مستقبل تلك الاتفاقية التي عقدت عليها آمالاً لدعم حمايتها. أطروحة أخرى خرجت من رحم التقرير، أعلن أن مصادر الطاقة المستقبلية ستتطور وسيزيد استهلاكها بديلاً للنفط، الأمر الذي سيحد من الطلب عليه مستقبلاً، والمتتبع لتطور استهلاك الطاقة غير المتجددة وزميلتها المتجددة يخرج بنتيجة مؤداها أن طاقة المستقبل زاد الاهتمام بها على المستوى الدولي، ووضعت الخطط والاستراتيجيات والقوانين واللوائح المالية والاستثمارية للاستثمار في هذه الطاقة لتقليل اعتمادها على النفط. لكن هل تكللت تلك الجهود بالنجاح المؤزر، حقيقة الأمر أن تلك الطاقة تبقى نسبتها 6 في المئة من إجمالي مصادر الطاقة في العالم، وللطاقة النووية حوالي 6 في المئة من مصادر الطاقة، إلا أنها تحف بها مخاطر عدة وتحتاج إلى التقيد بقوانين السلامة بعد أن شهدت كوارث عدة، والنفط الصخري حتى كتابة هذه السطور ورغم انفراد أمريكا بصناعته وأصبحت مصدرة له بعد أن بلغ إنتاجها من النفط الإحفوري والصخري (12.5) مليون ب/ي إلا أنه ليس منافساً قوياً للنفط بعد. وهناك يبقى للوقود الإحفوري (Fossil Fuels) القدح المعلى لتزويد العالم بالطاقة، فالنفط والغاز سيوفران 50 في المئة من احتياجات العالم من الطاقة عام 2040 وتبقى نسبة 21 في المئة للفحم، والطاقة النووية تزيد نسبتها قليلاً على 6 في المئة والفتات المتبقي لطاقة المستقبل. نصائح الصندوق لدول المجلس بشأن مستقبله الاقتصادي للخروج من عباءة النفط، هذه الدول ليست بعيدة عن المشهد بل هي في عمق جسده، لأنها أدرى بأمورها أكثر من الصندوق (أهل مكة أدرى بشعابها)، ولدى تلك الدول وفي مقدمتها المملكة رؤى حصيفة ترسم الطريق لحاضرها ومستقبلها الاقتصادي والمالي والاستثماري مستفيدة من تجاربها منذ ارتفاع أسعار النفط عام 1973 وحتى اليوم، وجندت الخبراء في النفط والمال والاستثمار والاقتصاد والقانون والإدارة والخصخصة.. الخ للتخطيط لمستقبل أوطانهم، وفق رؤية 2030 مثلاً حياً. رائحة أخرى تفوح من ثنايا التقرير تقول إذا حل زمن انحسار الطلب على النفط ستواجه ميزانيات دول المجلس عجوزات وسيبرز شبح الدين العام، وحقيقة الأمر أن دول العالم وفي مقدمتها ماما أمريكا ترزح تحت وطأة ديون عظمى، الدين الأمريكي كسر حاجز (22) ترليون دولار، عجز ميزانية ذلك البلد (1) ترليون دولار في دولة ضريبية، دول المجلس عانت من وطأة الديون عندما انخفضت أسعار النفط إلى (7) دولارات، و(10) دولارات في منتصف الثمانينيات والتسعينيات، وعندما تحسنت الأسعار غطت تلك الدول ديونها بعد أن حدت من إنفاقاتها والأهم أن المملكة آنذاك لم تخفض رواتب موظفيها وهذا عكس نصائح البنك. كل ما نقوله بإيجاز سريع إن دول المجلس وهي تخطو خطوات في تنويع مصادر الدخل، تحتاج فيما تحتاج إلى ترشيد إنفاقاتها فهي واسعة والمناقصات التي تطرح كبيرة في أرقامها بعضها تقوم به شركات أجنبية مغالى في أسعار صرفها، ثم إن أجهزة القطاع العام خاصة الخدمات منها تحتاج - ضرورة وليس ترفاُ - إلى إعادة هيكلة حقيقية تتمشى مع الرؤية، فهذه الأجهزة (تكرشت) وعشعشت في جسدها البيروقراطية وزادت تكلفتها على ميزانية الدولة وقل أداؤها. كما أن تطبيق مبدأ الشفافية والمساءلة الذي بدأته الدولة يجب أن يستمر بل بوتيرة أشد، للقضاء على الرشى والمحسوبية عنصري الفساد، اللتين يخرج من رحمهما فقر وجوع وبطالة. وإذا كانت هذه الدول التي تعتبر اليوم دول (ثراء) كانت يوماً قبل اكتشاف النفط مصدر رزق شعوبها استخراج اللؤلؤ في جوف البحار وزراعة بدائية في حضن اقتصاد معدوم، فهاهي اليوم بسبب أيادي النفط البيضاء نعيش في ظل بحبوحة من العيش زاد خيره ليغزو بلاداً عربية وإسلامية وتعداها إلى الدول الصناعية. وسيبقى للنفط أهميته خصوصاً في الخليج العربي، فنفوذه وقوته وشريانه هنا أصبح يمثل السياسة والاقتصاد، بل والأحداث في العالم والشرق الأوسط. فسبحان الله مسخِّر الأرزاق الذي خص هذه الأرض المباركة بهذا الذهب الأسود.. فأبشروا أهل الجزيرة العربية بالخير والرفاه والتنمية المستدامة والأمن والاستقرار. {رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آَمِنًا وَارْزُقْ أهلهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ} البقرة 126.
مشاركة :