الشعر الشعبي التونسي، فن متوارث أبا عن جد، لكنه ظل لعقود كثيرة سجين المعرفة الشفوية، إذ لم تسع تونس ممثلة في جهاتها الرسمية إلى توثيق موروثها اللامادي الشعري بطرق عصرية كالكتب والتسجيلات الإذاعية أو التلفزيونية المُخصّصة حصرا للأرشفة. وفي مغامرة مختلفة، اختار المخرج التونسي محمد صالح العرقي أن يعمل طيلة ثماني سنوات على توثيق جزء من هذا الموروث اللامادي الثري، ليقدّم للمشاهدين فيلما من 90 دقيقة تحت عنوان “على خطاوي الحرف” عن سيناريو وبحث وكتابة لمروان المدب. وقد اختارت المكتبة السينمائية التونسية أن تعرضه مؤخرا في إطار أسبوع “سينما الشعر وشاعرية السينما”. حي يرثي نفسه سافر المخرج التونسي محمد صالح العرقي بالمشاهدين في رحلة شيقة إلى مدينة دوز (جنوب)، مصحوبين بموسيقى الفنان الشعبي التونسي بلقاسم بوقنة، ذاك الذي ارتبط فنّه بأهالي الجنوب التونسي ويمكن اعتباره موثقا لأعمال شعرية كثيرة بطريقته الفنية الخاصة. لتنطلق الحكاية مع ثلاثة من أهم أعلام الشعر العامي في تونس، وهم الشاعر علي لسود المرزوقي والشاعر سالم بن عمران وصديق رحلتهما العيدي بن بلغيث، وهو أكثر العالمين بمسيرتهما ويحفظ أغلب القصائد التي نظمت طيلة عقود. يكتشف المشاهد عبر كاميرا العرقي عالم العكاظيات الشعرية، عبر مهرجان دوز الدولي للشعر الشعبي الذي يصرّ القائمون عليه على وصفه بالعكاظيات، نسبة إلى سوق عكاظ أين كان العرب قديما يتبارزون شعرا ويتداولون كلماتهم كما تتداول العملات. إنه مهرجان شعري أسّسه المؤرخ التونسي محمد المرزوقي الذي عمل جاهدا على تأريخ الشعر الشعبي التونسي والتعريف به والبحث فيه، مع تأسيسه لمهرجان يحافظ على امتداده. لقطات الفيلم تجمع بين توثيق بعض المشاركات في المهرجان وبين الحوارات المختلفة، بعضها مع الشاعر أيوب لسود المرزوقي الذي يبوح بأسرار عالم والده علي لسود المرزوقي، وكيف توارث عنه موهبته الفذة، وبعضها مع الشاعر سالم بن عمران الذي يسرد رحلة شاعرين تحاورا بالقصيد وتصادقا في الحياة والقافية. إلاّ أنها لقطات التزمت جميعها بإطار مكاني واحد ألا وهو مدينة دوز بصحرائها وواحاتها وقلب المدينة النابض بالحركة السكانية والناطق شعرا وفنا. لقطات الفيلم تجمع بين توثيق بعض المشاركات في مهرجان دوز الدولي للشعر الشعبي وبين الحوارات وثّقت كاميرا المخرج محمد صالح العرقي مشاهد عن عالم الصحراء وكيف يتطبّع أهلها بطباعها، فتراهم أقوياء أشداء لا يلينون حتى في قول الشعر، الذي يأتي مُتسقا مع طبيعتها القاسية. كما وثّقت الكاميرا أيضا، رغم اهتزازها في مواضع كثيرة وهناتها في اختيار زاوية التصوير ومدى مواءمتها للمشهد، لقطات مُضحكة وأخرى مُبكية انعكس تأثيرها على من شاهدوا الفيلم في القاعة. فتنتاب المُشاهد أحيانا نوبة من الضحك على لقطة بدا فيها ملحن عصامي كان له الفضل بأسلوبه الفطري الهزلي في تلحين “على الله”، تلك الأغنية التي حفظها التونسيون وأحبوها بعد سنوات من ولادتها في “برّ المرازيق”. ويبكي أيضا، وهو يرى الشاعر علي لسود يرثي نفسه عبر مرثية كتبها وألقاها قبل موته بحوالي خمس سنوات في جمع من الناس، فيترحّمون عليه وهو واقف بينهم، قائلا “أنا متت يجعلها البراكة/ فيكم منيش تنوصيكم قولوا عليّ كيف ميواتيكم” ليردّ بعضهم “الله يرحمك”. واكتفى العرقي بالغوص في عالم الشعراء الثلاثة، مع الحديث عن الشاعر التونسي البشير عبدالعظيم وتجربة علي بن ناجي ابن المرحوم الشاعر بوبكر بن ناجي، فوثّق البعض من تفاصيل حياتهم. لكنه لم يكشف للمُشاهد معلومات أكثر عن الشعر الشعبي التونسي، وعن بحوره وأغراضه الشعرية، ولم يختر من القصائد إلاّ تلك التي تغوص في حياة الشعراء الخاصة. من هناك ابتعد المخرج عن شعرهم السياسي المقاوم والثائر، وربما يعدّ ذلك توافقا مع اختياره “على خطاوي الحرف” عنوانا لفيلمه الذي أراده تتبعا لمسيرة إنسان شاعر مرّر موهبته لابنه البيولوجي، أو لأبناء بيئته التي منها ينحدر. تصحيح مسار اختار المخرج أن يوثّق مقتطفات من برنامج إذاعي للإعلامية التونسية أماني بولعراس، وهي التي تعمل منذ سنوات على اقتفاء أثر الإبداع التونسي أينما كان، فكان حضورها في الفيلم كمُحاورة تكشف أسرار عالم المرازيق الشعري، وكشاهدة على فنّ تونسي ذي طابع خاص، وكمُلهمة لقول غزلي يضفي بعض الود على بيئة الفيلم الصحراوية القاسية صورة ومعنى. ورغم أن الشعر ليس حكرا على الرجل في مدينة دوز التي حفلت بالضرورة بالكثير من الشاعرات، حتى أن أهل الجهة يعتبرون أمهاتهم ونساءهم شاعرات بالفطرة، إلاّ أن المخرج لم يظهر المرأة الشاعرة، واكتفى بمرور قصير للشاعرة عائشة الجباهي، دون أن يعرّف بها أو يحاورها، فمرّ إلقاؤها كمُتمّم لديكور الفيلم، ليس أكثر. واكتفى العرقي بالشعراء علي لسود المرزوقي والعيدي بن بلغيث وسالم بن عمران، ليصوّرهم كثلاثة من كبار مدينة دوز وقبيلة المرازيق، فهم بكلماتهم سيوف تذود عن الحرمات وتفتكّ حق المظلوم، وهم بأصواتهم صروح شامخة في وجه كل ظالم. حتى أن الشاعر علي لسود المرزوقي ذاع صيته في دول الجوار كليبيا والجزائر ومصر، وهو الذي كان مُدافعا شرسا عن كل عربي أينما كان. يعدّ الفيلم بداية رحلة المُصالحة بين التونسيين وشعرهم الشعبي، ذاك الشعر الذي يعتبره أغلب أهالي البلد هجينا، بل وضربا من الفلكلور ومن الكلمات التي لا ترتقي إلى مستوى اللغة العربية أو أي لغة أخرى، فكان الوثائقي مغامرة حقيقية خاضها المخرج لإقناع التونسي بقيمة هذا الموروث وثرائه. واعتبر بعض النقاد أن فيلم “على خطاوي الحرف” الذي صوّر جزءا من شخصية التونسي الثقافية ووثّق فكرها وتاريخها، قادر على أن يكون مادة بحثية من شأنها الإسهام في الحفاظ على موروث لا مادي مُهدّد بالغياب، كما يمنع انحصار هذا الفن الشفوي في رقعة جغرافية ضيقة يتناقله أهاليها كالأساطير، فأتى محمد صالح العرقي ليوثّق الكلمات المُتناثرة على رمال الصحراء المُمتدة بالصورة والصوت، ويحافظ عليها من السراب.
مشاركة :