تابع ريتشارد واطسون مؤلف كتاب «عقول المستقبل: كيف يغير العصر الرقمى عقولنا، ولماذا نكترث، وما الذى في وسعنا فعله»، والصادر عن المركز القومى للترجمة، بقوله: «ستظل الكتب على قيد الحياة بشكل أو آخر، ولكن ما الآثار المترتبة على المجتمع عندما يظل باستمرار النص الصامت «المدون في كتاب من ورق» تحت تهديد النص التشعبى «القادم من مصدر إلكترونى» الذى لا يهدأ أبدًا؟ ماذا يحدث لثقافتنا عندما تعتبر المرئيات والصوتيات أكثر فائدة من الكلمة المكتوبة؟ قد تكون الإجابة «مجتمع ما بعد التعلم»، حيث يستطيع كل الناس في ذلك المجتمع أن يقرأوا، لكن معظمهم يحجم عن ذلك. وتصبح الكلمات من المستلزمات الفنية، ويصبح التفكير المرئى من العلامات المميزة، أو يغذى متعة اللذة الرقمية الطائشة؛ حيث تكون البدعة أهم من الجودة. إن القراءة عبر الخط المباشر للإنترنت، والقراءة من كتاب ملموس بين يديك، هما خبرتان مختلفتان تماما. الناس بوجه عام في عجلة من أمرهم، ولذلك يلجئون إلى الإنترنت لاستخلاص معلومات محددة أو «قيمة» بأسرع ما يمكن. وعلى النقيض من ذلك، عندما لا نكون على اتصال من خلال الخط المباشر للإنترنت، عادة ما نتميز بعقلية أكثر هدوءًا، وهو ما يجعل مخيلتنا تصبح أكثر توهجا. يتأثر التعاطف والتواصل النقيان تأثرا سلبيا إذا ما كان الوقت هو العامل الحاسم والجوهرى. الأمر الحاسم هنا هو تشتت الانتباه. ونحن على الإنترنت تثير فضولنا وتغرينا الوصلات التشعبية للحصول على مزيد من المعلومات، أما على ورق الكتب فلا نجد ذلك. تعتبر الكتب الإلكترونية منزلة بين منزلتين لأن الكتب الإلكترونية ليست متصلة على الخط المباشر للإنترنت بصفة مستمرة، ومع ذلك؛ فإننا في حاجة لمزيد من الدراسة والبحث للتأكد من أن الشاشة نفسها لها بعض التأثير أم لا. لنعود لمسألة الذكاء الاصطناعى، ولنفكر في أين ستأخذنا تطورات هذا المبحث في المستقبل. صك مصطلح «الذكاء الاصطناعى» عالم الحاسب الأمريكى جون ماكارثى عام 1956. فقد تخيل ظهورا لعصر الآلات الذكية، والذى أصبح حقيقة خلال عقد من الزمن، وكما هى الحالة عادة مع مثل هذه التنبؤات فإن «ما تنبأ» به صار إلى حد ما حقيقيا، ولكن «متى» سيتحول إلى حقيقة ما زال هذا أمرا بعيد المنال. أصبح لدينا الآن أشكال أساسية لذكاء الآلة، رغم عدم إدراكنا لذلك. لو أنك أخطأت في كتابة هجاء كلمة على محرك البحث «جوجل»، لنقل مثلا عبارة «حل المشكلات» ستسألك الآلة إن كنت تقصد أقرب مرادف لعبارة «حل المشكلات». مثال آخر، أصبح بإمكانك شراء كاميرا مزودة بخاصية أوتوماتيكية للتعرف على الوجوه. قم بإدراج بعض الوجوه المألوفة في كاميراتك، وبعد ذلك ستقوم الكاميرا بالتعرف على تلك الوجوه وإبرازها وسط أى زحام، مؤكدة أن الكاميرا التقطت صورهم بدقة. ولكن هذا ليس إلا مثالا آخر عن كيف تقلل التكنولوجيا الرقمية من مجال رؤيتنا. فكلما ركزنا أكثر على كل ما هو مألوف «عن طريق التشخيص»، كانت قدرتنا أقل على الملاحظة أو الاهتمام بأى شىء آخر. حتى إن هناك لعبة لأطفال سن الثامنة تتيح للاعبين التحكم في أشياء غير متحركة باستخدام سماعات الرأس، وهناك كذلك، لعبة لتوارد الخواطر بين المخ البشرى والحاسب. هذا ما توصلنا إليه إلى الآن، تصور ماذا قد يحدث بعد ذلك. كتب العالم ومؤلف الخيال العلمى «فيكتور فينج»، مقالًا في عام 1993 يقول فيه: إن تسارع وتيرة التكنولوجيا يؤدى إلى تطور «مشابه لظهور الحياة البشرية على كوكب الأرض». الفكرة هنا أن كثيرا مما يحدث يتم بالطريقة نفسها. فالمعالجة التى تتم عبر الحاسب والذاكرة يتسارعان مقتربتين من معدل هائل وضخم، وتكنولوجيا الذكاء الاصطناعى، والروبوتات، وتكنولوجيا النانو، جميعها تتسارع بشكل مماثل. وهذا سينجم عنه، وفقا لما يرصده المراقبون مثل «راى كورزويل» إلى وصول الهجين البشرى والآلات لدرجة ذكاء عالية، لدرجة أن هذه الآلات المهجنة تستطيع أن تصمم نفسها بنفسها «والمعروفة باسم التفرد التكنولوجى».ووفقًا لما يقوله «كورزويل»– الذى أنشأ الجامعة المتفردة بمساندة من جوجل– من المحتمل أن يتم ذلك في عام 2045، يعتقد «كورزويل» أيضًا أنه في أثناء حياته «قبل عام 2050 مثلًا»، سيكون في الإمكان تحميل محتويات المخ البشرى «والمعالجات التى تتم عبر التفكير» داخل نوع من الآلات، والتى ستعرف بوجود تلك المحتويات بداخلها، لذلك سيتم ابتكار نوع من الخلود الرقمى. هل يجعلنا العصر الرقمى أكثر ذكاء، ولا يجعلنا نرتكب أخطاء سخيفة؟ لسوء الحظ، يبدو أن الأمر ليس كذلك. فالطلب المتزايد على انتباهنا، والخليط الزائد من التعقيد والاتصال يعملون ضدنا. وتعد أسباب اقتراف الأفراد والمؤسسات لأخطاء بسيطة جدًا، وهى تتصل اتصالًا مباشرًا بعمل أمخاخنا. أحد أسباب ذلك هو فشلنا بكل ما هو معروف لنا مثل ما يسمى بــ «التكلفة الغارقة». إننا «نهدر» الوقت والمال في أشياء غير مجدية، ولذلك نستمر في مساندة الأفعال، أو الاستراتيجيات التى تخطت المنطق، سعيًا وراء استرداد إما أوقاتنا أو أموالنا، وهذا مشابه لسبب آخر وهو «تأثير الهبات» الذى يشير إلى النقطة الرئيسية هنا، إن انتباهنا ليس مصدرًا بلا حدود. إنه محدد، لذا يجب علينا أن نكون حريصين كل الحرص على ما نعطى وعما سنعطى. وللحديث بقية..
مشاركة :