إبداع البوابة.. قهوة بلدى قصة لـمصطفى نمر

  • 3/17/2020
  • 00:00
  • 2
  • 0
  • 0
news-picture

قهوة بلدى..الخامسة عصرًا فى ذلك اليوم الحار من أيام الصيف، قرر الأستاذ فتحى، مدرس اللغة العربية فى المدرسة الثانوية بعد يوم شاق فى المدرسة مع التلاميذ وقواعد النحو والصرف الركون إلى قهوته الأثيرة وركنه المفضل المظللة سقيفته بشجر اللبلاب فى ذلك المقهى الذى حافظ على روحه القديمة الضاربة فى ثلاثينيات وأربعينيات القرن الماضي.وقف القهوجى يرش المياه على الطريق والأسفلت المقابل للقهوة حتى تخف حرارة الهواء المشتعل بلهيب الصيف، وبدأت الزبائن تتنسم نسمات الهواء البارد على استحياء وارتفعت الضحكات فى المكان ناشرة البهجة من حولها. وبخلاف قواعد النحو الثابتة فالذاكرة متغيرة ومتحركة تتجول فى سنوات العمر بين الماضى البعيد والماضى القريب حتى تصل إلى اللحظة الحالية فقفزت ذاكرة الأستاذ فتحى إلى تاريخه فى القهوة التى كان يرتادها منذ زمن بعيد فى أول التعيين وهو فتى الشباب والقوة حتى انحدرت السنوات والصحة ليصل إلى نصف الربيع الثانى من الخمسينيات من العمر والجميع يعرفونه فى القهوة والأجيال المتعاقبة والمتوارثة للقهوة..اتجه بخطواته الجادة إلى مقعده وتقدم إليه القهوجى مرحبا..القهوجي: اتفضل يا أستاذنا منور الدنيا كلها.الأستاذ: شكرا يا حماصة يلا بسرعة ورايا درس فى المركز.القهوجى: ربنا يكتر من دروسك يا أستاذ، ثم أردف القهوة الفرنساوى المظبوطة وحجر التفاح حالا.أطلق الأستاذ فتحى لخياله العنان ليتحرر من الهموم والجو الضاغط الذى أصبح يغلف كل شيء حوله. وتذكر أول مرة يدخن فيها كان هذا منذ زمن بعيد عندما كان طالبا صغيرا تحركه طاقة لا تعرف الهدوء وأحب المغامرة وشىء غامض دفعه إلى تجربة الشيشة ولم يتركها من حينها، حتى أصبحت جزءًا منه، وذهب النبوغ وتبخرت التوقعات، ولكن ها هو الآن مدرس عربى يعطى الدروس وعلى كل حال الوظيفة أحسن من لا شيء.جاء القهوجى ووضع القهوة على المنضدة الدائرية بطاولتها المعدنية والأبخرة تتصاعد منها وبجانبها كوب الماء المثلج وقطرات الماء المتكثفة حول جسده دخلت فى سباق النزول والاندفاع إلى المنضدة.أخذ القهوجى قطع الفحم المشتعلة من المجمرة وبطريقته الاحترافية وضع القطع على شكل دائرة على الحجر، وبدأ فى سحب الهواء من لىّ الشيشة وتغير لون الفحم إلى الأحمر المشتعل وعندما تأكد من سير عملية الاحتراق على أكمل وجه قال: يا أستاذنا كل حجر وليه رصة مش أى حد يرص حجارة.فحياة الأستاذ بإيمائه من رأسه.أمسك الأستاذ فنجان القهوة وبدأ يرتشف منه وأمسك «اللىّ» وبدأ فى الدخول إلى عالم الساحرة «النارجيلة» وعبر على خياله فجأة تشابه المرأة مع الشيشة ولا يعلم من أين جاءه وحى التشبيه هذا، فهو يعامل النارجيلة بكل احترام كامرأة..ربما لوجود تشابه بينها وبين المرأة..فمثلا قوامهما انسيابى متناسق...أم لأن لسانها طويل «اللى»...أم لأنها مطيعة بالفعل مطيعة إذا أخذت نفسا عميقا تسمع إليك ولا تعترض وإذا أخذت نفسا قصيرا فهى لا تمانع..أم لأنه يقبلها فى فمها..أم لأن باطنها متغير دائما، عليك بتغيير المياه عند كل استعمال وهكذا المرأة عليك إلا تشعرها بالملل..أم لأنها تفعل معه فعلها فى الدخان يدخل إليها ساخنًا ويخرج باردًا..... أم.. أم..أم..قال لنفسه وهو يهز رأسه: آه لو كانت الشيشة امرأة لتزوجتها فورًا.القرقرة حركته المفضلة ينظر إلى جسم الشيشة وينظر تقرقر الماء بداخلها يتقلب ويقلب همومه بداخلها علها تبرد مثل الدخان.قرر أكثر من مرة الإقلاع، ولكنه لم يستطع ليس إجبارا أو حفاظًا على الصحة، ولكن الشيشة هى الجنس اللطيف الوحيد الذى يركن إليه ويستريح معه وليس عليه أى التزامات ناحيته، فهى دائما فى انتظاره كالمرأة الوفية التى تنتظر حبيبها مهما طال الأمد.حانت لحظة الانطلاق ترك نفسه لها: بدأ مفعول الدخان يسرى فى داخله وبدأ الخدر ينتشر داخل عقله ويغلفه بغمامة دخانية تحيط عقله وفكره. وبدأ إحساس تنميل لذيذ يسرى فى عروقه ووصل إلى يديه وقدميه استسلم أكثر، يستعد الآن للتحليق بعيدا بأفكاره عن المكان والزمن وأوان الارتفاع..والعمل على أشده داخل الشيشة والقرقرة ترتفع وصدره يعلو وينخفض بحركة آلية ليضخ مزيدا من الدخان داخله.ذهب إلى عالم آخر وانفصل عن الوجود، أنزل اللسان من على فمه لتخرج من صدره تنهيدة حارة تخرج ما بداخله، تريحه دائما هذه المرأة المعطاءة.بدأ يشعر بطعم احتراق داخل فمه وأنفاسه وبدأ الاشتعال داخل الفحم يخبو ويتحول لونه إلى الرمادى، آه إنه موعد العودة وتنبيه مهذب اللهجة من محبوبته «آه لو كنتِ امرأة لتزوجتك»، احترم تنبيهها وأنزل اللسان من فمه.بدأ يعود للزمن والمكان بدأ يتكشف رويدًا رويدًا بانقشاع سحب الدخان من داخله. بدأ يطرق أذنيه صوت الدومينو المرتطم بالمناضد وأحجار النرد المصطدمة بجوانب الطاولة حوله وأصوات إذاعة أم كلثوم والرائحين والعائدين.ارتشف ما تبقى من القهوة وارجع لسان الشيشة إلى مكانه شاكرا على ما منحته إياه ولم ير أى متسابقين على كوب الماء لقد ذهبوا جميعًا.. ترك النقود على المنضدة ورحل ليلحق بالدرس المنتظر.قصة لـ مصطفى نمر

مشاركة :