الفنّ بـ«نون النسوة»

  • 3/19/2020
  • 00:00
  • 5
  • 0
  • 0
news-picture

انفتحت المرأة العربية من الخليج إلى المحيط، في بلدان عربية كثيرة على محيطها وأعلنت عن نفسها بصفتها ذاتا حرة ومبدعة، ساهم في ذلك ولوجها لحقول سياسية وثقافية وإبداعية عديدة، بالإضافة لانفتاح المجتمع العربي على حقوق المرأة وما تتطلبه المرحلة التاريخية من إنصاف «الجنس الناعم»، من أجل الرقي بالمجتمع ككل. وقد كان لنساء دون غيرهن أسبقية الولوج إلى عالم الإبداع منذ منتصف القرن الماضي، باعتبارهن سبّاقات نحو الإعلان عن الرغبة في الانفتاح وخروج بالمجتمع العربي من قوقعة الانغلاق الذكورية، نحو المساواة. إذ خطت المرأة العربية في السنوات الأخيرة خطوات كبيرة في مسيرتها نحو التميز، بل والارتقاء لمكانة كانت حتى وقت قريب حكراً على الرجال. ولنا تجارب كثيرة في مختلف المجالات، إذ لا يستوي المجتمع دونما إعلاء من حرف «النون»، فالجمع السالم هو جمع مذكر ومؤنث.. وفي نصنا هذا نتوقف عند ثلاث فنانات رائدات عربياً، «هنّ» الإماراتية (نجاة مكي) والمغربية (مريم أمزيان) والعراقية (بهيجة الحكيم). انطباعات مكي الصوفية تَعرِف دولة الإمارات العربية المتحدة بفضل الدينامكية الفعّالة التي يقودها القادة السياسيون لهذا البلد، انفتاحاً مهماً على كل أقطاب وركائز المجتمع. انفتاح يُعزى إلى القيادة الرشيدة التي تهتم بالمكون النسائي، باعتبار المرأة فاعلاً مهماً في بناء مجتمع متسامح يحيا كل أفراده في ظل المساواة. لهذا فالمجتمع الإماراتي غنيّ بالكثير من النّساء المبتكرات والمبدعات اللواتي يمتلكن الرؤية الإبداعيّة والشجاعة والحكمة والمثابرة والابتكار والمثاليّة. ومن بينهن التشكيلية الرائد نجاة مكي (1956-...) التي في عام 1977، كانت أول امرأة إماراتية تحصل على منحة حكومية لدراسة الفن في الخارج، وسافرت إلى القاهرة حيث حصلت على درجة البكالوريوس والماجستير في نحت الناتئ والمعادن. وقد تحصلت أيضًا على شهادة الدكتوراه في فلسفة الفن في عام 2001. ما يجعلها ذات تكوين تطبيقي ونظري، ما يسمح لها بأن تشتغل على أعمالها من منطلق معرفي وجمالي في الآن نفسه، اشتغاله الأساسي الرؤية التي تكونها تجاه عالمها ومحيطها وثقافتها العربية والإسلامية. دراسة واشتغال نجاة مكي جعل منها فنانة رائدة في مجالها، وأكسب أعمالها حساً جمالياً مفعماً بخلفيات فلسفية وثقافية، تقدم للعمل لديها دلالات كثيرة، تغني حقل القراءة وتعدد التأويلات اللامتناهية. أعمال يمكن وصفها بأنها «ميدان الذاكرة»، حيث تتقاطع ذاكرة الفنانة الخاصة وذاكرة المجتمع بشكل عام، وهو الأمر الذي نلمسه عبر تلك الحركية الانطباعية للون والأشكال، الناتجة عن ضربات الفرشاة التي ينتج عنها تلك النقط المنفلتة وتلك البقع اللونية المتراكبة في طبقات، إلا أن تلك البقع وتلك النقط لا تستمد أصولها من أي تأثر غربي، بقدر ما تتصل بالثقافة العربية والمحلية (الإماراتية)، أي إنها تجسيد انطباعي لذاكرة هذا البلد بشكل عام وذاكرة نجاة مكي الخاصة في التقاء على امتداد نسيج اللوحة. نستشعر بشكل حيوي انشغال نجاة مكي ببيئة موطنها، عبر تلك الألوان الزاهية المائلة إلى زرقة البحر والسماء ولون الرمال الذهبية وتنوع ألوان الألبسة التقليدية الإماراتية، بالإضافة لاشتغالها على الرموز المحلية التي تعطي للعمل لديها «ذاكرة حية». للون بكل انطباعاته الحيوية، ما يجعلها تصطبغ بروح صوفية تمنحها «قراءات لامتناهية». أيقونات بهيجة الحكيم تعدّ العراق من البلدان العربية الرائدة في الولوج إلى عالم الفن التشكيلي، بشكله الحديث. وقد ساهم في ذلك التاريخ الجمالي الذي تراكم على امتداد العصور والدول التي تداولت الحكم في هذه الجغرافيا. لهذا لم يكن من الصدفة أن تكون النساء العراقيات من أولى الرائدات في الحقل الفني العربي الحديث والمعاصر. والفنانة بهيجة الحكيم (1937- 2008) واحدة منهنّ. تشترك بهيجة الحكيمة ونجاة مكي وأيضاً مريم أمزيان بالإضافة لرائدات ورواد الفن العربي، الانشغال بالذاكرة والتراث المحلي... وهو السؤال الذي كان يقود الحداثة التشكيلية العربية من المحيط إلى الخليج. لهذا فقد انجذبت بهيجة الحكيم إلى القباب المذهبة الزرقاء وإلى قطع القماش الخضراء المعلقة داخلة الأضرحة، بمدينتها الأم كربلاء، وهو الأمر الذي تستحضره في أعمالها الفنية، كنوع من المرآة التي تنظر فيها إلى ذاتها (طفولتها) والمجتمع العراقي خاصة والعربي عامة. كرست جل حياتها الفنية في رسم تلك البيئة العراقية من ورود وأشجار وعصافير وسط حقل من الرموز والعلامات المفعمة بروح صوفية... ما يجعل منها «أيقونات» انطباعية، عامرة بحساسية مرهفة ونابعة من ذات أنثوية، تنظر إلى المستقبل بعين البهجة والأمل. وقد ظلت متمسكة بالصبغة الرومانسية التي طبعت أعمالها إلى أخر قماشة. تمسك عماده المحاولة المستميتة منها لوضع ذاكرة بيئة العراق الجمالية في إطار أيْقُونيّ زاه وزاخر بالحياة. كوسموبوليتات أمزيان لم تلج المرأة العالم الأكاديمي للفن التشكيلي بالمغرب (بمدرستيه: الدار البيضاء وتطوان) إلا في سنوات العقد السادس من القرن الماضي. إلا أنه تعتبر الفنان المغربية مريم أمزيان (1930-2009) واحدة من رواد فن الرسم التشخيصي الواقعي بالمغرب، وهي أول امرأة مغربية تدرس الفنون الجميلة بالخارج. ولدت في عام 1930 في فرخانة (منطقة الريف في شمال المغرب). تعاطت للرسم في بداية مسارها الفني كعصامية، وأقامت أول معرض لها في عام 1953 في مالقة من خلال تصريحاتها، ثم بعد ذلك أقامت عدة معارض في مدن مختلفة من المغرب. بعدها التحقت بالمدرسة العليا للفنون الجميلة سان فرناندو في مدريد. عام 1959، تخرجت حيث حصلت على شهادة الأستاذية في الرسم والتصوير. توفيت في 29 مارس 2009 بمنزلها بمدريد. رسوماتها الأولى، وبالرغم من ارتباطها بالأساليب الأكاديمية، استمدت ألوانها ومواضيعها من جبال الريف الشامخة، حيث مسقط رأسها ومقر عائلة أمزيان الكبرى. أي من شمس هذه الجبال وألوانها وشخوصها وإرثها الثقافي المعماري والفلكلوري. لوحاتها الأولى أبهرت العديد من النقاد في أوروبا، كما احتلت أعمالها التشكيلية موقعاً متقدماً في سوق التشكيل خاصة في مدريد وباريس وروما. منذ البداية أعطت الفنانة أمزيان للوحاتها عمقاً عميقاً، وبحثاً واسعاً في الهوية التي اهتمت بها. جاعلةً من الكوسموبوليتات (كونية) الثقافية والاهتمام بالأصل المغربي والأمازيغي منبعاً لاشتغالها. تستلهم صباغاتها من نوستالجيا تعكس النظرة المغربية الغنية. تلك النظرة التي لا تكون ثابتة بل متحركة داخل لوحاتها. اللوحة الغارقة في المشاهد النموذجية، والهندسة المعمارية والمناظر الطبيعية، ونساء وسكان جنوب المغرب. النساء المتبرجات مع الزهور، والمجوهرات التقليدية، والمشاركة في المهرجانات، تزاوج بين الجنوب وفاس. ترسم لوحاتها عبر الاشتغال على اللون الأحادي، أو الكروماتيكية التي يطغى عليها الأحمر أو الأزرق أو الحبري. عملها الفني سفر في الزمان والمكان، إنه التقاط لافت للحظة ونقل بديع لها، ودقة متأنية في توظيف اللون، واستعمال باهر للخطوط، وحضور صائب للضوء والظل. العمل الفني لديها انتقال من الخيال إلى الواقع، وإن يسكن الواقع ولا يبارحه، فهو نقل لوحشة الطبيعة وسكون المقدس. إنه تلاقي الملموس والروحاني، المادي والصوفي.

مشاركة :