حين تعبر المرأة عن موهبتها الابداعية فى مجال الآداب والفنون، فإنها تؤكد أن المرأة قد تتفوق على آلاف، بل ملايين الرجال، فمبدعة واحدة متميزة فى أى مجال من المجالات، تؤدى خدمات للبشر بينما يعجز الكثيرون من الذكور عن عمل شىء يتعلق بالابداع. ولعل هذا الموضوع يرد على الذين يحاولون التقليل من مكانة المرأة، ويضعونها فى خانات محددة، محدودة، ومن يقرأ التاريخ المعاصر، عالميا وعربيا، لحقوق المرأة، سوف يكتشفون أن المرأة لم تحصل على هذه الحقوق فوق طبق من بللور نقى. لذا، فعندما نشرت سيمون دى بوفوار كتابها “الجنس الثانى” عام 1949، سرعان ما ظهرت الحركة النسوية فى الولايات المتحدة، التى سبقت أوروبا فى هذا الميدان بشكل ملحوظ وفى السبعينيات من القرن الماضى، انتقلت النسوية إلى الابداع، خاصة فى الأدب والسينما، والغريب هذه المرأة أن النسوية عادت إلى أوروبا، بينما بدت القاهرة شاحبة فى الثقافة الأمريكية، أما نحن هنا، فى مصر، فقد نظرنا إليها بارتياب ملحوظ وبدونا منعزلين تماماً عن العالم. فى هذه الأنشطة برز ابداع نون النسوة، أو تاء التأنيث، وقدمت نساء عديدات ما يؤكد أن الموهبة لا تفرق بين رجل وامرأة سواء فى الأدب أو الفنون، وخاصة فى الفن التشكيلى، والسينما، والغناء، وقد تنبه الشاعر والروائى أشرف أبو اليزيد إلى أهمية هذه الظاهرة فى حياتنا المعاصرة، خاصة فى القرن العشرين، وكتب العديد من الدراسات والمقالات حول نساء مبدعات، أو ما أسماه حسب عنوان كتابه الأخير “نون النسوة.. نهر الفن” وهو يوحى أن النساء قد أبدعن فى مجالات عديدة بما يتفق مع المعنى الكبير للنهر من خلال طوله، واتساعه، وتدفقه… اختار المؤلف ثلاثة من الفنانات التشكيليات، الأولى تركية هى جليلة خانوم، صاحبة أجمل لوحات فنية فى تركيا المعاصر، وقد قال فى دراسته عنها أنها والدة الشاعر التركى المعروف ناظم حكمت، أما التشكيلية الثانية فهى المكسيكية فريدا كالوا، صاحبة اللوحات الفريدة، والتى عاشت حياة بالغة الصعوبة، مليئة بالأمراض، والابداع، والتدفق، أما الفنان الثالثة فى مجال الفن التشكيلى، فهى المصرية من أصول سويسرية نمساوية “مثل حالة الفنان استيفان روستى، مارجو فيون.. ثم توقف عند الابداع الشعرى لثلاثة من النساء عشن فى عصور مختلفة، وفى أماكن متباعدة أقدمهن الشاعر الاغريقية سافو، المولودة عام 612 قبل الميلاد، ثم الأمريكية نورما جين بيكر، الممثلة المشهورة تحت اسم مارلين مونرو، والتى تم النظر إليها على أنها رمز الجاذبية الجنسية، رغم أنها لم تمثل أبداً أدوار الاغراء، بل كانت طلتها فكيلة أن تشد ا نتباه الرجال والنساء، لقد اهتم الكاتب بالجانب الابداعى عند الممثلة الفاتنة، خاصة علاقتها بالشعر، كمبدعة ومتذوقة، أما الشاعرة الأحدث وإن كانت عاصرت مارلين مونرو، التى اختفت عن عالمنا عام 1962، فهى الفلسطينية فدوى طوقان. نحن اذن، أمام ثلاث فنانات فى كل مجال: الفن التشكيلى، والشعر، ثم اختار جانبا طريفا خاصا بالمطربة أم كلثوم، وهو قدرتها على تأليف القصص القصيرة، حتى وإن تم ذلك فى مسابقة قصصية للقراء أجرتها مجلة الاثنين فى الثلاثينيات من القرن الماضى. مارجو فيون، من أيقونات الكتاب اختلف التناول فى كل فصل، أو مقال، حيث أن الكتاب بمثابة تجميع لمقالات نشرها المؤلف فى فترات متناثرة، وما يهم هنا أننا أمام سبع نساء من خلال سبع حكايات لا يجع بينهن زمن واحد، لكن جمع بينهن الفن، أما الفن التشكيلى، أو الشعر، فأجمل ما فى الكتاب هو اختيار النساء، ابتداء من جليل خانوم التى اعتبرت رائدة الفن التشكيلى فى تركيا، حيث تعتبر رمزاً للمرأة التى تناضل من أجل فنها، وكانت سنداً لابنها الشاعر ناظم حكت، التى كنا فى حاجة إلى أن نعرف أكثر عن رحلته النضالية والشعرية، ومناهضته للنظام السياسى فى بلاده، ونفيه إلى الاتحاد السوفيتى، وقد كانت هناك اشارات مختصرة حول هذه العلاقة بين الأم وابنها، حيث استأجرت بيتا قريبا من السجن الذى أودع فيه فى مدينة “بورصة” التركية، من أجل أن تكون إلى جواره. هذه الأم المولودة فى استانبول عام 1883، فى عائلة ذات أصول ألمانية بولندية عمل أبوها “انفر باشا” فى قصر السلطان عبدالحميد الثانى، وهو ابن لأحد اللاجئين إلى تركيا خلال الثورة البولندية، وقد اعتنق الاسلام، وحارب فى جيوش الامبراطورية العثمانية، وقد تحدث أشرف أبو اليزيد عن جذور الاسرة باستفاضة لنعرف المزيد عن تاريخ الفنانة، فأمها ليلى خانوم هى ابنة المارشال محمد على باشا، أحد الذين جاءوا إلى تركيا من ألمانيا، وقد تربت الابنة عن طريق مدرسين خصوصيين يأتون إلى القصر، وذلك على غرار الطريقة التى تربت بها الكاتبة السويدية سلمى لاجيرلوف “جائزة نوبل فى الأدب 1908″، وكانت أجمل نساء عصرها، بالاضافة إلى الذكاء، فقد كانت مضرب الجمال فى مدينة حلب حيث عاشت بعض الوقت حتى أن نساء حلب كن يتحسسن بشرتها كلما رأيتها للتأكد من أنها حقيقية. كرست المرأة وقتها للرسم، وقد اهتم بالجسد العارى، والبورتريه معا، فرسمت وجوه أغلب افراد أسرتها، وظل رسم لبورتريه جزءا مهما من حياتها كموهبة ولدت معهأ، وشاركت فى معارض عديدة، بلوحات لها، ومنها لوحتها الشهيرة “امرأة تشرب القهة” وقد كرست حياتها للفن إلى وفاتها عام 1956. أما فريدا كالو فقد تعرضت لحادث وهى شابة صغيرة جعلها تجلس فوق مقعد متحرك حتى وفاتها عام 1974، عن عمر يناهز السابعة والأربعين، وحياتها مليئة بالألم، والتدفق ومحاولة هزيمة المستحيل، وقد فقدت سنوات كثيرة من هذه الحياة كزوجة للفنان دييجو ريبيرا، ومثلما اهتمت جليلة خانوم برسم بورتريه لأفراد عائلتها فان فريدا ظلت ترسم بورتريهات لها، كأنها تستعيد الصور التى فقدتها أثناء الحادث، فهى تحتفى بالطيور الأربعة على كتفيها كأنها سترسلها لجهات الدنيا تعوضها عن حالة المكوث التى هى فيها، دمية شبه عاجزة عن الحركة. فريدا كالو وقد اهتم الكاتب بالفيلم الأمريكى الذى تم انتاجه حول “فريدا” لدرجة أنه كاد أن ينسى حديثه عن الفنانة وأسهب فى الكلام عن الأفلام العالمية التى صورت حياة العديد من الفنانين التشكيليين، وعلى رأسهم فان جوخ، والفيلم من اخراج جولى تيمور، حيث أشار أن الفيلم صور كيف أجهضت كالو فى أثناء وجودها فى نيويورك لحضور معرض للوحات زوجها فى متحف الفنون العصرية، ويشير الكاتب أن الفيلم صور المغامرات الجنسية للفنانة مع الرجال والنساء، عكس الزوج الذى كان معلمها ثم زميلها وصديقها فزوجها. مارلين والمهم فى الكتاب، أنه كشف عن الجانب المثقف للممثلة مارلين مونرو، التى عاشت حياة مليئة بالتيه، والقلق، والاضطراب العاطفى، وخلف هذه الممثلة الفاتنة هناك امرأة مثقفة، ارتبطت فى فترة من حياتها بالكاتب المسرحى والروائى آرثر ميللر، وقد كتبت مونرو الشعر بين فترة وأخرى، ومن أبرز ما كتبته.. ربما أكون قد عشقت مرة ربما أكون قد نطقت بحبك جهرة لكنك ذهبت بعيدا وحين عدت كان ذلك بعد فوات الأوان كان الحب قد أصبح كلمة منسية فهل تذكر ذلك كله أما الشاعرة الفلسطينية فدوى طوقان، فهى لدى الكاتب ظاهرة فريدة وتجربة رائدة على صعيدى الحياة والابداع معا، وهى فنانة تحترم ذاتها وتحترم فنها، لا تتورع عن خدش ألواح الوصايا هذه، وليكن الطوفان من بعد الصدق والأصالة وقداسة الانسان الرد. فدوى طوقان وأشرف أبو اليزيد، الذي أطلق اسم فدوى على صغيرته وفى لقاء للشاعرة مع مؤلف الكتاب، قالت طوقان: جئت من زمن كان فيه شعر المرأة بدعة، فالمرأة العربية فى موروثنا الشعرى لم يتعد دورها قول الرثاء، وإبراز مناقب الراحلين، عدا ما قدمته رابعة العدوية فى القرن الثانى للهجرة، بشعرها فى الحب الإلهى، ظاهرة الغزل الحسى وباطنه الدعوة إلى الله بالحب الذى هو أهل له. وفى ديوان “الليل والفرسان” كتبت الشاعرة قصيدتها “إلى السيد المسيح فى عيده”. يا سيد، يا مجد الاكوان فى عيدك تصلب هذا العام أفراح القدس صمتت فى عيدك يا سيد كل الأجراس من ألفى عام لم تصمت فى عيدك إلا هذا العام فقباب الأجراس حداد وسواد ملتف بسواد القدس على درب الآلام تنزف تحت يد الجلاد أما الجزء الأغلب من الكتاب، فهو ديوان للشاعرة الاغريقية القديمة سافو التى عاشت فى القرن السابع قبل الميلاد، وفى حياة هذه الشاعرة من الاسطورة ما هو اكثر من الواقع ولها من الخيال نصيب أوفر مما لها فى الحقيقة، ولا تكاد الأشعار التى تركتها تنبئنا عن سيرتها الكثير، وقد اكتنف الغموض مسارة سيرة حياتها، والتى تقول بكلمات مقتضبة بليغة دون ما تحذير
مشاركة :