"الظروف أحياناً تلمّ بنا وتعطّل حياتنا، ولكنها لا ترقى إلى أن تكون في القانون "ظروفاً طارئة". اليوم، غزت جائحة كورونا كوكب الأرض، وما شهدناه بدايةً في الصين من وقف لحركة الاستيراد والتصدير مع دول العالم، سيكون له تأثيرات كبرى على العقود والاتفاقات المبرمة والموقّعة بين أفراد وشركات ودول، تأثيرات قد تغيّر أوجه التعاملات في ما بين الأطراف، وتاليًا على القوانين التي ستفصل في القضايا المتأتّية عن الجائحة... وهذا غير الكوارث الصحية. فالأوبئة الصحية واقعة مادية صرفة، تكون لها آثار سلبية واضحة يمكن رصد ملامحها على العلاقات القانونية بوجه عام والعلاقات التعاقدية على وجه الخصوص، حيث تتصدع هذه الروابط نتيجة ركود أو شلل يصيب بعض القطاعات الاستثمارية، ما يجعل من المستحيل (أو على الأقل من الصعب) تنفيذ بعض الالتزامات أو يؤخّر تنفيذها. تفيد قاعدة "العقد شريعة المتعاقدين" المعروفة بأن ليس لأحد أن يستقل بإلغاء أو تعديل العقد أو أن يتحلل من التزاماته بطريقة منفردة، أي الالتزامات التي تقررت بمقتضى العقد الذي أبرمه بإرادته الحرة، كما أنه ليس للقاضي التدخل في تعديل العقد أو الغائه من غير رضا المتعاقدين. وهي تقول بأن يبقى كل من المتعاقدين قادراً على تنفيـذ التزاماته من دون ضرر يلحقه. وعليه، إذا حل بأحد المتعاقدين عذرٌ أو تغيرت الظروف التي تم فيها إبرام العقد بحيث أصبحت تؤدي إلى اختلال في التوازن الاقتصادي بين الطرفين أو تجعل تنفيذه مرهِقاً أو مضرّاً بأحدهما، يصبح تنفيذ هذه الالتزامات جائراً على الطرف المتضرر، وينبغي تعديل العقد إلى الحد الذي يُرفع به الضرر، أو فسخ العقد حسب طبيعته والظروف التي تغيّرت ووفقاً لمصلحة المتعاقدين. فقهاء المذهب الحنفي أجازوا فسخ عقد الإيجار للأعذار الطارئة، كما أن فقهاء المذهبين المالكي والحنبلي يرون إنقاص الثمن في الثمار المبيعة إذا أصابتها جائحة. ومن هنا، نشأت " نظرية العذر" في الفقه الحنفي و"نظرية الجوائح" في الفقهين المالكي والحنبلي. وفي القوانين الحديثة، يقابل هاتين النظريتين نظرية "الظروف الطارئة". وكما هو متفق عليه غالباً، تطبَّق نظرية "الظروف الطارئة" في الحالات التي يكون فيها تنفيذ الالتزام مرهِقاً لأحد الاطراف او كليهما. ويكون الجزاء هو رد الالتزام المرهِق إلى الحد المعقول وتوزيع الخسارة على الطرفين. أما إذا استحال التنفيذ فيُطبّق على الأمر نظرية أخرى هي نظرية "القوة القاهرة" التي تختلف أحكامها عن أحكام نظرية "الظروف الطارئة". والجزاء فيها هو فسخ العقد وانقضاء الالتزام. أما إذا لم تتجاوز الخسارة الحد المألوف فلا مجال لتطبيق "القوة القاهرة". حتماً ستصبح دعاوى "القوة القاهرة" معقدة ومحل خلاف بين الأطراف عندما لا تتسبب متغيرات كبرى فى التأثير بشكل مباشر على العمل. ولعلي اتذكر قصتين حدثتا في القرن الماضي توضحان الاختلاف في التصور وتبين بعضاً مما اقصد: - كانت الشركة الاسبانية "روفر"،Rover ، تعمل في مشروع الترامواي بمدينة ورقلة الجزائرية، وتكبدت وفيّات في صفوف اليد العاملة جراء ارتفاع درجات الحرارة. وهو الأمر الذي أدى إلى توقف العمل والدخول في المفاوضات مع الحكومة. طلبت الشركة الاسبانية توقيف العمل وتحجّجت بوجود "قوة قاهرة" تتمثل في الارتفاع المفرط لدرجة الحرارة، إلا أن الجهة الأخرى في العقد، وهي "مؤسسة مترو الجزائر"، ردّت هذا الطلب نظراً إلى أن حالة جوّية، كارتفاع مفرط في درجة الحرارة بمدينة ورقلة، قابلة للتوقّع، وتالياً لا يمكن اعتبار ارتفاع درجة الحرارة "قوة قاهرة"! - وحدث أن تعاقد أحد المقاولين السعوديين مع الحكومة السعودية على تشييد مبنى في منطقـة الظهران لقاء مبلغ معين في العام 1956. وإثر الاعتداء الثلاثي على مصر وإغلاق قناة السويس أمام الملاحة البحرية، تعطل نقل مواد البناء إلى المملكة العربية السعودية فارتفعت الأسـعار إلى ثلاثة أضعاف ما كانت عليه, فأوقف المقاول الأشغال وطالب الحكومة برفع قيمة الأعمال لتعويض الخسارة. لكن الحكومة طلبت منه الاستمرار, وقد اضطر ان يطلب من دار الإفتاء المصرية بيـان الحكم الشرعي في ذلك، وهل له الحق في أن يطالب برفع قيمة الأعمال لكي يعوض الخسارة التي لحقت به. فصدرت الفتوى بأنه "يجب شرعا رفع الغبن عن هذا المقاول بما يعوضه عـن ارتفـاع أسعار مواد البناء التي استعملها في أعمال البناء... فإذا اتفق الطرفان على زيادة معينة ترفع الضرر والغبن عن المقاول لزمت وارتفع النزاع، وإلا حكّمنا خبراء الصنعة لتقدير قيمة العمل عند الخـصومة واالله أعلم." قصتان بسيطتان وتماثلهما الكثير من القصص، حول تعاملات تجري كل يوم بين أفراد أو مؤسسات أو حكومات. لكن ماذا عن جائحة الكورونا (كوفيد – 19)، هل تُعتبر "قوة قاهرة" في القانون والقضاء؟ بالتأكيد هي كذلك. ولعلّ بعض الأمثلة الراهنة يعطي فكرة عمّا يمكن أن يحصل! ذكر موقع "هوليوود ريبورتر" أنه إذا قرر ممثلون أو شركات إنتاج فسخ عقودهم ورفض الاستمرار في عملهم، بسبب جائحة كورونا واضطرارهم على تنفيذ التعليمات بعدم التجمّع، فالخيار الأول أمامهم هو دفع الغرامات إذا لم تكن العقود تلحظ "القوة القاهرة" كتبرير لفسخ العقد. والخيار الثاني يتمثّل باللجوء إلى حجة "العجز عن التنفيذ" التي تيسّر عملية الفسخ. ومثلها يفعل الخيار الثالث الذي يعمل بموجب "الظروف الطارئة" التي تحول دون تنفيذ الأعمال. وخلاصة الموضوع أن الأمر المؤكّد الوحيد الذي سينتشر بسرعة انتشار الكورونا هو الدعاوى القضائية التي ستُرفع على أساس الخيارين الثاني والثالث أعلاه، مع الدعاوى المبنية على أساس بنود المتعلّقة بالقوة القاهرة. من جهة اخرى بدأت الدول الاقتصادية الكبرى كأمريكا والصين باستصدار ما يسمى بشهادات "القوة القاهرة". وهذه تقضي بإبراء الأطراف من مسؤولياتهم التعاقدية التى يصعب الوفاء بها، بسبب ظروف استئنائية تخرج عن نطاق سيطرتهم. مؤسسات وشركات عالمية كثيرة هناك، طالبت بشهادة "القوة القاهرة" من أجل التحلل من التزاماتها التعاقدية، وعدم أداء غرامات التأخير أوالتعويض عن التأخير في التنفيذ أو عن استحالته. ووافقت الحكومات اعلاه على أنه لكي يتم الحصول على شهادة، يمكن تقديم مستندات موثقة لإثبات التأخير أو التعطل. وستكون الشهادة معترفاً بها دولياً وليس محلياً فقط! السؤال هل ستبدأ حكومات الوطن العربي في تبني حلول وافكار مماثلة؟ لنرَ؟!
مشاركة :