يلاحظ المتتبع لتجربة الشاعر الراحل أحمد بن علي الكندي «1940 - 1985»، أنها تجربة غنية بمحتواها العاطفي، ومنتجها الغزلي، وأيضاً بحساسيتها المفرطة تجاه الفقد والغياب، وعنف الزمن، وانسلاخ الماضي عن بساطته وعفويته، ولكنها تعد في ذات الوقت تجربة مهمة، لأنها رصدت وبدقة التغيرات التي طرأت على المنظومة الاجتماعية في الإمارات، خصوصاً بعد دخول مظاهر التحديث والنهضة الصناعية والعمرانية في نهاية الستينيات حتى ما بعد قيام دولة الاتحاد. ما قام به الشاعر الكبير أحمد الكندي من توثيق وتوصيف ومعاينة لما يمسّ أدق تفاصيل هذا التحوّل الاجتماعي، يعتبر من الجهود النادرة شعرياً، والتي يجب الوقوف أمامها طويلاً وتحليل جوانبها الإنسانية وتأثيرها على الذين عاصروا النقلة الواضحة والكبرى من حياة الريف والبداوة وحياة الصيد البحري، والغوص بما تمثله من ذاكرة منتمية لحنين مكثف نحو المهن اليدوية، إلى حياة أخرى لم تخل من غربة داخلية، وتعقيد أيضاً عندما دخلت شركات التعمير والكهرباء، وشركات التنقيب عن النفط إلى المنطقة وجلبت معها ظواهر جديدة تتعلق بالتقنيات والميكنة المتمثلة في الآلات الصناعية وسيارات النقل ومساكن العمال والموظفين التي كان يطلق عليها مسمى «الكامب» وغيرها من الظواهر التي أسست لوضع مفاجئ ومغاير لما كان الناس والأهالي قد اعتادوه وألفوه في حياتهم ومعاملاتهم اليومية، وهي الشركات ذاتها التي التحق بها عدد كبير من مواطني الدولة ومن ضمنهم الشاعر أحمد الكندي، وصارت تشكّل في أذهانهم وتصوراتهم ثقافة مستجدة، كان عليهم التكيّف معها والتواصل مع أصحاب هذه الشركات من خلال لغتهم ومصطلحاتهم الغريبة، وللتعاطي مع المهن الجديدة ووصف لوازمها وحيثياتها. يقول الشاعر الكندي في إحدى قصائده المرتبطة بهذه المهنة الجديدة، وهي عمله في إحدى شركات النفط أثناء مصادفته لحادث سير في طريقه: إن سلت عن علمي وعن حادثٍ جرى باخبرك حتى أنك تصير خبير جينا من الكَمْب الجنوبي من ليوا في جيب للشركه بوحيب قصير مرقاع عندي كان في يوم أقشر وسيارة أخرى معاي تسير خطفنا على رجل يبا السيف قاصد وعنده صبيٍ من العِيال صغير قال انقلوني ياهل الجود والكرم تجزون من رب العباد بخير وهذه القصيدة رغم بساطتها وأسلوبها السهل الممتنع إلاّ أنها تنقل الجانب السردي والقصصي لنبض الحياة، وتغيّر إيقاعها، في تلك الفترة التي تبدلت فيها أحوال الناس وصارت فيها مصطلحات، مثل «الكمب» - أو مخيم ومجمّع العمال والموظفين - و«الجيب» و«الشركة»، وغيرها من التوصيفات الأجنبية، جزءاً من بنية القصيدة النبطية، ولكونها مصطلحات باتت لصيقة باللهجة المحكية، واشتبكت مع طبيعة الحوارات اليومية بين الموظفين المواطنين المنخرطين في هذه المهن الجديدة، ولذلك فإن جرأة استخدامها في قصائد أحمد الكندي هي جرأة تحسب له، لأنه ساهم في تطوير القصيدة الشعبية وجعلها منسجمة ومتناغمة مع الإيقاع السريع للحداثة الخارجية، بانعكاسها الحسي والبصري، وبتأثيرها الاجتماعي المواكب لتطور اللهجة ذاتها وتعاملها مع المفردات والكلمات الأجنبية، وما رافق ذلك من تحوير وإبدال للمنطوق الأصلي كي تتلاءم مع المنطوق المحلّي. امتازت قصائد الكندي بالطابع التسجيلي للمكان، وبالتنوع في الأغراض والمواضيع، واللجوء لمختلف الأوزان الشعرية، وكان لحسّه المرهف، وتأثره البالغ بالظروف المعاكسة لما تهواه نفسه، التأثير الواضح لما صاغه من نقد واعتراض وتعبير عن الألم الذاتي تجاه الظواهر السلبية المحيطة به، وخصوصا الصدمات التي تلقاها من المحبوب، حيث دوّن ووثّق هذه الأحاسيس في قصائد عديدة غناها مطربون كثر، ومن أشهر القصائد التي تناولت هذا الجانب النقدي والذي يشكو فيه من تغير الحال وفقد الحبيب، قصيدته المعروفة التي يقول فيها: لقيت الدار من بعد الحبايب خليه باكيه وبها عجايب وقفت بها وانا حيران ساعه ودمع العين من موقي صبايب الا يا دار بالله خبريـــني عن المحبوب قولي وين غايب تقول الدار عقبك غادروني وخلوني لعيّات الهبايب وسافر من تود وحال دونه حر وبرور وأخطار ومصايب رجعت بحسرتي واهموم صدري وتقلاني من العبره لهايب ومن ضمن القصائد الشهيرة للزير سالم التي أدّاها الكندي باستخدام الربابة، المقطع التالي: الزير أنشد شعرا من ضمائره فالعز بالسيف ليس العز بالمال شيبون أرسل يوم الحرب يطلبني يريد حربي وقتلي دون امهال ناصحته عن قتالي لم يطاوعني فراح سيفي يشج الرأس في الحال دع المقادير تجري في أعنّتها ولا تبيتن إلّا خالي البال إن التقاسيم اللحنية التي أبدعها الكندي باستخدام ربابته منحت مجالس الشعر الشعبي بعداً جمالياً دشن من خلاله لطقس ملهم، ولمحتوى مبتكر، جمع فيه بين القصيدة الشفهية والفن السماعي، وأثار شجون الكثيرين تجاه التقاليد البدوية الآيلة للاندثار والنسيان، ولكن ابنه محمد الكندي ورث عنه موهبة العزف على آلة الربابة فأبقى ميراث والده حيّاً وماثلاً أمام أبناء الجيل الجديد من الشعراء ومتذوقي الفن الراقي، والشكل التعبيري الرفيع. ويذكر الشاعر والباحث علي بن أحمد الكندي نجل شاعرنا الكبير أن والده بعد أن خبر اليتم مبكراً تكفّل به عمه القاضي مصبح بن علي الكندي، فتربّى على يديه وتعلم منه القراءة والكتابة، فكانت هذه هي أول المراحل التي انطلق من خلالها إلى عالم الشعر متأثراً بشاعرية عمه وحكمة جده، مضيفاً أن أولى محاولات أحمد الكندي الشعرية بدأت معه، وهو صغير عندما كان يكتب ما يجلو بخاطره من قصائد مبكرة على الرمل، ثم سرعان ما يمسحها، ربما خوفاً من النقد أو لعدم ترجمتها بدقّة لما يعتمل في ذهنه من صور وحالات يصعب التعبير عنها وهو في تلك السن التي تتمخض وتتبلور فيها الموهبة وتتشكل في انساقها الملامح الأولى لشاعر يرجو التمكن والوثوق بقدراته الإبداعية المتفتحة على وعد كبير مع الشهرة والتميّز. من قصائده المشهورة: «سيدي يا سيد ساداتي» التي غناها المطرب جابر جاسم ويقول فيها: سيدي ياسيدي ساداتي سيد الخود المزاييني راعني وارفق بحالاتي دامني في حبك ارهيني لا اتغفل تترك مواساتي بين ناس ما تواسيني انت انسي وانت راحاتي وانت غيرك ما يسليني هوب كل الذوق غاياتي ولا بكل الشرب يرويني انت ذوقي وانشراحاتي وانت شربي لي يهنّيني من قصائد الكندي المعروفة أيضاً ما حمل عناوين مميزة ولصيقة بأجواء ومواضيع وأماكن القصيدة المطروحة، مثل: «إن غبت لك في القلب تذكار»، و«بسكرة»، و«هور سمنان»، و«جو ليوا»، و«الحادث»، و«مطلع سهيل»، و«بدو لخويره». وفي قصيدته التي يرد بمقطعها الأول البيت التالي: كم لي وكم لي وكم ذكرى اسج بها لي نامت الناس أنا ما غمّضت عيني يبرز مدى تأثر شاعرنا الكندي بلواعج الذكرى، مكابدات السهر، فبينما الخلق نيام يعيد الشاعر صياغة الوقت على مقياس مختلف عن فهم ووعي الآخرين، مخاطباً الريح التي تهب من الطرف المعروف له، ولكن حتى هذه الحوارية الافتراضية مع نسائم الهواء تبدو خائبة ومنكفئة على ذاتها، فتزيد من حيرة المحب وارتباكه: كم اسأل الريح لي هبت هبايبها ولا من الريح خبر ٍ بايسليني ورغم اعتماده على الصبر مع زيادة لهيب الشوق إلاّ أن الدموع التي يذرفها لا تطفئ أبدا لهيب الكبد، بل تزيد من اشتعال الوجد وتطيل من أمد المعاناة، فيختتم قصيدته بهذا الأسى الجاثم على مصير العشاق، وكأنه قدرهم ووقود إبداعهم أيضا! حيث يقول الشاعر: صبّرت قلبي وكبدي زاد لاهبها تذرف دموعي ونار الشوق تكويني. محضر «عتّاب» ولد الشاعر أحمد بن علي الكندي في محضر «عتّاب» التابع لمحاضر ليوا، وكانت فترة الأربعينيات التي ولد فيها معبراً للدخول في تجارب شخصية وعامة ذات خصوصية وأهمية بالغة، وكان لظهور الإذاعة والتلفزيون والأسطوانات والأشرطة الصوتية أواخر الستينيات، دور أساسي في انتشار قصائد أحمد الكندي، خصوصاً مع براعته في العزف على الربابة، وبالتالي نقل قصائده العذبة التي يشدو بها إلى مستوى إيقاعي جاذب للمشاهد والمستمع، وكانت لبرامج الشعر الشعبي التي كان يقيمها الكندي في منزله بمنطقة ليوا أثر واضح في إقبال الناس على الشعر النبطي في تلك الفترة والتلهف لمتابعتها والإنصات بشوق لجديد الشعراء، وما تفرزه قريحتهم من قصائد تتناول أغراضاً وتلاوين مختلفة تتناوب بين الغزل والقصائد الوطنية وشعر المشاكاة والردود والمديح وغيرها. مساجلات شعرية دار بين الكندي وعدد من شعراء عصره، العديد من المساجلات الشعرية، أمثال الشاعرة عوشة بنت خليفة السويدي «فتاة العرب»، والشاعر صالح بن عزيز المنصوري، وعبدالله بن عامر الفلاسي، وراشد بن دسمان، وسلطان بن هيّاي المنصوري. وامتازت القصائد التي أداها الكندي بصوته الشجي وباستخدامه آلة الربابة، بميلها الواضح للوله والصبابة والعشق العفيف، وانتمائها لثقافة أهل الصحراء، وقربها من القصيدة النحوية المحايثة للقصيدة الفصحى، وتم الاستعانة بإحدى قصائده المغناة بصوته على إيقاع الربابة، في المسلسل الإذاعي، الذي تناول سيرة «الزير سالم»، وتم بثه بإذاعة أبوظبي في العام 1972.
مشاركة :