كمال الجزولي لعل أهم وجوه الأزمة التي يعانيها المسلمون، اليوم، وهم يجابهون سؤال «الدين والسياسة»، إنما يكمن في كونهم يمحقون «صحيح الدين» الذي هو كلمة الله المطلقة، لحساب «متخيل التدين» الذي هو بعض كسب البشر النسبي، ويخلصون، بالنتيجة، في لاوعيهم الجمعي، إلى رفع «التدين» فوق «الدين» نفسه.فما أكثر من يتجهمك بقول واضح التناقض مع أساسيات الإسلام، ومع ذلك يزعم أنه فقيه قديم، ولا يستبعد أن يكون هدفه، من ورائه، تحقيق مصلحة دنيوية خاصة. ومع ذلك، فالويل لك إذا لم يبد هذا القول سائغاً في ميزان فهمك لمقاصد الدين الكلية. فالمطلوب أن يسترهبك القول فترضخ فقط، حتى لو كانت النتيجة لجم تفكيرك، واستلاب وعيك، وغلّ مداركك، هكذا، وبدلاً من استخدام عقولنا في التسليم بالعبودية المطلقة لله تعالى كما أمرنا، نمارس الانكفاء الوجل على رموزيات «تاريخ الدولة الإسلامية»، بلا تبصر، حتى لو كانت صناعة بشرية بعيدة عن مصادر الوحي، مثلما نمضي نجمد هذه الرموزيات في الزمان الأبدي، دونما استحقاق، متوهمين في قدمها قداسة وعصمة خاصتين، فننتهي، عملياً، إلى «عبادة التاريخ»، والعياذ بالله.ولعل أخطر مآلات هذا التقديس الخاطئ ما انتهى إليه أغلب المسلمين، عموماً، من وضع ديني يخلط بين ما هو نص قطعي الورود والدلالة في القرآن والسنة، وبين ما هو محض فقه، أي محض اجتهاد بشري مسيج بمشروطية إبستيمولوجية محددة، بصرف النظر عن مدى ثقل الشحنة التي يحملها من مصطلحات المعجم الثيولوجي، فلا يهيئ، بالنتيجة، سوى تربة خصبة لاستزراع بذور «الإسلام السياسي». وفسائله. ومن المحيّر حقاً، أن يبلغ هذا الخلط حد أن يحتاج المسلم للتدليل على كون المشروعات الفقهية الضخمة نفسها في التاريخ الإسلامي، بما فيها ما اشتمل على أعمال وفهوم الصحابة الأجلاء، وعلى رأسهم الخلفاء الراشدون ذاتهم، دعْ الحواشي والشروحات والتفاسير الواردة على المتون الأصلية في القرآن والسنة، هي اجتهاد بشري محض نهض بعبئه مسلمون بشر لا قداسة لهم، إنما كانوا بمثابة مفكري ومثقفي عصورهم، بالمصطلح الحديث، وخلاصة مستوى الوعي الاجتماعي زماناً، ومكاناً. فابن رشد، على سبيل المثال، جابه، من موقعه، كمفكر، وفقيه، وفيلسوف مسلم، أسئلة عصره الكبرى، خلال القرن الثاني عشر الميلادي، فلم يقف متردداً يرمق التاريخ وجلاً، بل مضى يقتحم، بتجرؤ واقتدار، كل أسوار المعضلات «الفقهوفكرية» الشائكة، مستنهضاً فرضيته الأساسية القائمة في عقلانية الإسلام الفلسفية، فخلص إلى رفد الفكر العالمي بعناصر تفتّحه، وتنويره. هكذا لم تكتف «الرشدية» بأن تتمأسس، فحسب، كمرجعية يستحيل تجاوزها على صعيد الفكر العربي الإسلامي، بل وعلى صعيد الفكر اللاتيني المسيحي نفسه. والإمام الشافعي تصدى، من جانبه أيضاً، كعالم إسلامي، لإشكاليات التشريع والقضاء في عصره، فوضع رسالته الشهيرة، مستهدفاً خلع نوع من التماسك على الفقه، وهو يواجه قضايا عصره. ومع ذلك، فإن جلال اجتهاده، بالغاً ما بلغ من القدم، أو حتى من سداد القرب من الحقيقة الدينية، لا ينفى عنه نسبيّته، أو محدوديته البشرية، من حيث احتماله للخطأ، والصواب، كخاصية تقطع بينه وبين نصوص الوحي المعصوم. فمشروعا ابن رشد والشافعي لا يمكن إنجاز أيٍّ منهما الآن، بالمنهجيات نفسها التي اتبعت في عصريهما.والآن، وطالما كل ذلك كذلك، فكيف انتهى بنا الأمر إلى هذا الحد المريع من الخلط والتخليط الفادحين بين «المقدس»، و«البشري»، خصوصاً على صعيد ثنائية «الدين»، و«السياسة»، بعد كل إضاءات القرآن والسنة لمكانة «العقل» في الإسلام، باعتباره موئل التكليف، ومناط الاستخلاف؟ kgizouli@gmail.com
مشاركة :