كما كان متوقعا تصدرت المجلة الساخرة شارلي إيبدو اليوم عناوين كل صحف العالم ووسائل الإعلام وشغلت الشرق والغرب. ثلاثة ملايين نسخة طبعت، نفذ القسم الأول منها في غضون ساعات ومن المرتقب رفع عدد النسخ المطبوعة إلى خمسة ملايين ناهيك أن العدد الأخير صدر بعدة لغات. أولئك الذين صاحوا لقد قتلنا شارلي لقد ثأرنا لمحمد. لا هم قتلوا شارلي ولاهم ثأروا لنبي الإسلام. اعتداؤهم الوحشي على مواطنين عزل أثار اشمئزاز كل إنسان، المسلم، المسيحي، اليهودي، العلماني والملحد. اعتداء همجي لا أكثر ولا أقل زاد عند العقول النيرة عمق الهوة التي تفصل الإسلام كدين حنيف ودين سلام عن إيديولوجيا التطرف السوداء التي يتبعها هؤلاء المتشددون. لكن لحيثيات هذا الاعتداء نتائج سلبية على صورة الإسلام والمسلمين بشكل عام. ففي الغرب المتحضر أيضا عقول فيها من الغباء ما فيها ونالت هي الأخرى لا أدري كيف نصيبها من الجهل والتعصب والوقوع في الخلط الأعمى والتعميم. قراءة خاطفة للتعليقات التي نشرت على الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي عقب الاعتداءات تجسد لنا بامتياز ما يعرف بـ صراع الحضارات وهو صراع مقبول إذا ما حصر داخل إطار سليم ينبذ العنف والقتل والتمجيد للإرهاب وأفكار الظلام. الفكرة تتحدى الفكرة والرأي يصارع الرأي الآخر والاختلاف لا يفسد للود قضية لكن القتل كان وسيبقى سلاح الجبناء وسيظل منبوذا في كل مكان وزمان وكل عقيدة سليمة دينية كانت أم غير دينية. صدرت شارلي إيبدو صباح اليوم الأربعاء وعلى صفحتها الأولى رسم قيل أنه للنبي محمد يظهره دامعا ورافعا لشعار أنا شارلي ليتدفق سيل السب والشتم والدعوة إلى الثأر من جديد. هذه الحلقة من اللاوعي التي تدور في الفراغ وهذه العواطف اللاعقلانية التي تسعى إلى إشعال نار الفتنة من جديد جعلتني امتنع عن قراءة تعليقات من يصفون أنفسهم بـ حماة الدين وتجاوز نظرية المؤامرة التي يروج لها من يحسبون أنفسهم سياسيون محنكون. نفس الحلقة الفارغة جعلتني امتنع عن شراء مجلة شارلي إيبدو لأنه وبكل بساطة لم يسبق لي وأن اشتريتها من قبل كما أني لا أتفق مع بعض جوانبها التحريرية، وذلك على الرغم من أني أجد ما كتب على الصفحة الأولى لهذا العدد التاريخي حكيما وبليغا في آن واحد. فقد كتب فوق رسم النبي والدموع في عينيه عبارة لقد سامحنا كل شيء وربما هي رسالة تأكيد أن الإسلام دين تسامح. تحضرني هنا وأنا أكتب هذه السطور مقولة لفيلسوف عصر الأنوار فولتير الذي يقول قد أختلف معك في الرأي، ولكني على استعداد أن أموت دفاعا عن حقك في التعبير عن رأيك. إن لكل واحد منا قدسياته، فالمسلم يقدس ما لا يقدسه غير المسلم وغير المسلم يقدس ما لا يقدسه المسلم، ولعل تظاهرات 11 يناير في فرنسا والتي وصفت بالتاريخية خير دليل على أن الحرية في الاعتقاد الفرنسي ليست شعارا فحسب لكنها دين وقداسة ترسخت بعد عقود طويلة من النزاعات والحروب والدماء .. راجعوا التاريخ... ذات التاريخ الذي علمنا أن التطرف والتعصب لا يجلب إلا الويلات لكل أطراف النزاع ونشير أن من المعارك التي يجب على فرنسا ودول الغرب بشكل عام خوضها الآن تلك التي تخص الشباب الذين ينجرون كل يوم إلى مصيدة التطرف الظلامي وخاصة الشباب أصحاب الأصول العربية-الإسلامية الذين يعانون مشكلة هوية تجعلهم ممزقين بين ثقافة هنا وهناك، بين ثقافة الغرب وتلك التي ورثوها عن الآباء والأجداد، ولاشك أن سياسة الاندماج التي انتهجتها فرنسا ودول أوروبية أخرى فشلت بكل ما تحمله الكلمة من معنى. فمن غير المعقول أن نرى شبانا يهتفون بالموت لبلد احتضنهم وترعرعوا منذ الصغر في مدارسه ليعلنوا الولاء الكامل لأيديولوجيات تصدر لهم من بلدان أخرى في كثير من الأحيان - لم تطأ أرجلهم أرضها من قبل. أوروبا القيم الإنسانية والغرب بشكل عام وعلى رأسه فرنسا لم يبق لهم عذر بعد اعتداءات باريس وما تلاها من مظاهرات شعبية تاريخية فالعدو واحد والتهديد بات حقيقة، وما يقع في سوريا والعراق ونيجيريا اليوم من مآس ومفاجع نتيجة الإرهاب صار ايضا مسؤولية الجميع وليكن الجميع بمستوى المسؤوليات والرهانات حاضرا ومستقبلا. هي معركتنا ومعركة الجميع... معا ضد الإرهاب والقتل... آفة هذا الزمن ويا له من زمن...
مشاركة :