مرض عضال يهب الحياة لمحكوم بالإعدام

  • 4/2/2020
  • 00:00
  • 1
  • 0
  • 0
news-picture

ولقد درج عدد كبير من الأكاديميين الإيرانيين على التأريخ للثورة، وتحولات المجتمع الإيراني في تلك السنوات المفصلية، من لحظة سقوط الملكية إلى استحواذ نظام الولي الفقيه على السلطة، على نموذج السيرة الروائية، التي تجمع بين السيرة والمذكرات والرواية الواقعية كما هو حال كتاب “قافلة الإعدام” لبهروز قمري. تتجلى تفاصيل العمر القديم وكأنما من عمق لحدي، وجوه متقلبة لشخص يَمْثُلُ بوصفه “آخر”، بوقائع وأهواء وصلات منتهية، وصداقات تعيد تركيب كلام منسي، ومواقف تنأى عن الحاضر، عن الشخص الملتفت إلى وقائع الذاكرة البعيدة، والمقلّب لبقايا الاسم الذي كانه. لهذا تقترن الاستعادة التخييلية بنزوع جنائزي، في نصوص عديدة، لاسيما تلك التي تعيد تركيب تفاصيل محن مرزئة تسم الجسد والروح، إنه الإحساس الذي ينتابنا، من الوهلة الأولى، بعد الانتهاء من كتاب “قافلة الإعدام: مذكرات سجين في طهران” لبهروز قمري المؤرخ وعالم الاجتماع الإيراني وأستاذ دراسات الشرق الأدنى بجامعة برنستون. حياة منتهية حمل الكتاب في الطبعة الإنجليزية (الأصل) عنوان “في تذكر أكبر: داخل الثورة الإيرانية”، ولم يكن “أكبر” إلا الاسم الذي سعت السيرة إلى استعادة ملامحه الممحوة من شاشة الذاكرة، استنباته في تربة أخرى، لطالب الجامعة والمناضل الشيوعي، والحالم المشارك في يوميات الثورة الإيرانية، ثم المعتقل السياسي، المحكوم بالإعدام، ضمن المئات من المحكومين الآخرين، المنتظرين لتنفيذ العقوبة في سجن إيفين الرهيب، الذي خصصه “الملالي” لتصفية خصومهم الأيديولوجيين، بعد استلامهم الحكم. العديد من الكتاب الإيرانيين أرخوا للثورة من خلال أسلوب السيرة الروائية، فمن كتاب “آذر نفيسي” المعنون بـ“أن تقرأ لوليتا في طهران”، إلى كتاب “بردة النبي” لروي متحدة، تواترت نصوص سردية عديدة عن السنوات الثلاث الأولى للثورة الإيرانية، وما تخللها من صراع نكد بين فرقائها، من الشيوعيين إلى الليبراليين الديمقراطيين، ومن الاشتراكيين إلى القوميين والأقليات الإثنية، ومن رجال الدين إلى طلاب الجامعة الراديكاليين، ومن الملالي إلى اليساريين الإسلاميين، وغيرهم ممن انتهى بهم الحال إلى الدفاع عن قناعة امتلاكهم وحدهم “للمعنى الحقيقي للثورة”. ومن ثم ستسعى تلك التخاييل السردية إلى محاولة فهم ما جرى من انقلاب في الاصطفافات النضالية، ومن صدام دام، ومن تمزقات، وتحولات في المشهد، تكاد لا تستند لمنطق، وتحتاج للتعبير الروائي لتصوير مفارقاتها والتباساتها، ذلك ما سعى إليه مجددا بهروز قمري في كتابه “قافلة الإعدام”. في الأسطر الأولى من السيرة يقول السارد ما يلي “متُّ في السابعة والنصف من صباح 31 ديسمبر 1984. لا أقول ذلك مجازا، وإنما بالمعنى الحقيقي للوجود. في تلك اللحظة تماما، وضعت قدما في العالم الآخر مع توقيع متردد ذيل قرار الإفراج. هكذا متُّ، بالخروج من عالم لا يمكن تصوره، ودخول عالم مرتبك من التفاهات، تركت نفسي السابقة في مكان يوجد فقط في شروط مستحيلة”. «قافلة الإعدام» يوميات إيرانية لعائد من الأقبية المظلمة "قافلة الإعدام" يوميات إيرانية لعائد من الأقبية المظلمة وعبر فصول الكتاب الستة والعشرين تتخايل تدريجيا الحياة المنتهية للشخص الملتبس بالاسم الحركي: “أكبر”، الذي كان قبل أزيد من أربعة عقود معتقلا سياسيا أصيب بالسرطان، عالم جحيمي يركب مفصلا عابرا في حياة لا تتجاوز ثلاث سنوات، داخل سجن سياسي بطهران، استضاف “أعداء الثورة” لاستراحة ما قبل الإعدام. على هذا النحو تقدم لنا السيرة الروائية تفاصيل عودة “أكبر” (الاسم الحركي لبهروز)، من تجربة تنفيذ حكم الإعدام، بعد مضي عقود على خروجه من المعتقل “لأسباب صحية”، كان السرطان الذي تفاقم في جسم المعتقل اليافع، سببا في الإفراج عنه، فقد كان شخصا ميتا، بحكم وضعه الصحي، ولا يحتاج لأن يحال على المشنقة. بعد خروجه وإثر مصادفات شتى انتهت به إلى الولايات المتحدة، وإلى علاج كيميائي قاس، كلل بشفائه التام، وعودته من تجربة موت محقق. فتحول تاريخ خروجه في 31 ديسمبر من سنة 1984، إلى لحظة لاستعادة تفاصيل ما جرى في معتقل إيفين، وإلى استرجاع ملامح وأسماء وحيوات رفاقه في الزنازين، وفي تجربة الانتظار؛ انتظار تنفيذ حكم الإعدام الذي يختصر في جملة يطلقها الحارس على حين غرة، مناديا اسما معينا، طالبا منه “جمع أغراضه”. عبر مساحات الاستعادة المرمّمة للوقائع والأحاسيس، والمتخيلة للكلام المنسي، تنبت تأملات في تحولات البلد والناس، كما تستدرج للسيرة سير أشخاص عاديين ممن واكبوا منعرجات الثورة في الشوارع والمصانع والجامعات والمقاهي والحانات، من حكاية الكحول والعمل النقابي وصناعة الأحذية، إلى حكاية الهروب من حظر التجول، إلى صور مناضلين ركبت أحلامهم الثورية على شغف بأشعار حافظ والموسيقى الأذرية.. على ذلك النحو انتسجت ملامح شخصيات: علي، وشاهين، وغُلام، وداود، ومنصور، وبرهام، وأصغر، وصلاح، ممن شيعهم أكبر مع بقج متاعهم الصغيرة إلى باب المغادرة النهائية. “نصرالله”، “الخال حسين”، “ما العمل؟”، “المنزل الآمن”، “سيمفونية ميلر الأولى”، “التروتسكي”، على هذا المنوال صيغت عناوين فصول السيرة، المنطوية على حكايات لحظات وصفات وسجايا، وطرائف، سكبت في فجوات زمن التحقيق والتعذيب والمحاكمة، ومعايشة برودة زنازين المعتقل، وانتظار نداءات مدعي عام الثورة “أسدالله لاجوردي”، لتعيد الفصول تركيب صور حياة يومية مأخوذة من مفارقات الصخب الثوري، داخل فضاءات مغلقة تملأ بنقاشات الأسرى واسترجاعاتهم، في تلك الحكايات نتعرف على حكايات صناع الأحذية مع النقابات الممنوعة، والأدبيات الماركسية المتنقلة عبر الأيدي في نسخ صغيرة، مخبأة ككنوز مهربة، نكتشف مواسم القراءة تحت اللحاف في الليل بمصابيح عمال المناجم، كما نصاحب النقاشات السياسية المحمومة بين الخصوم/الشركاء في الثورة. لكن ما يوحد مقامات تلك الفصول في الغالب الأعم، هو انتظامها على إيقاع التحقيق والمحاكمة وانتظار دعوة الحارس للخروج النهائي، فعبر تلك الفواصل يكتشف القارئ أمزجة وطبائع بشرية شتى، وقدرات خارقة على الصمود، وضعفا بديهيا يفضي إلى التراجع والتنكر للقناعات وطلب العفو. بين تلك المدارات تتكشف قدرات تحويل المأساة إلى طاقة للهزل، والتخفف من رهاب الموت والتصالح مع قرار الذهاب إلى الإعدام، ذلك ما يفسر تلك القدرة على استنبات السخرية في فجوات الصمت والألم والعلة “كانت الغرفة مليئة بدخان السجائر، نحن نصنع غرفة إعدام بالغاز، قال السيد الصالحي بمحاولة باهتة للمزاح”. سيرة وتفاصيل كانت التفاصيل المفعمة حماسا وعمقا وتشبثا بالمعنى، واستحضارا للأشعار والموسيقى، تطل لتبديد سطوة الحراس والمحققين، وجعل الخروج النهائي مجرد إجراء عابر، مفرغ من الفجائعية، لهذا كانت محاولات الإقناع المتبادلة بين المعتقلين ليست عن الموت وإنما عن الحياة، عن السياسة والثورة والماركسية والفكر الإسلامي والعمال والحركة الطلابية وانتظارات الإيرانيين منهم، ومدى أخلاقية التراجع تحت وطأة التعذيب، ومصداقية التحولات الفكرية الأخيرة. كان النقاش بصدد ضمائر منذورة للحياة، لا بين أجساد ذاهبة لموت محتوم، يقول السارد في الأسطر الأخيرة من فصل يحمل عنوان “اعتراف”، “أعدمت منية هدائي بعد شهرين من رفضها سحب إنكارها لتراجعها. ألقى حسين روحاني اثني عشر خطابا آخر، ظهر في ثلاثة منها كماركسي ولد من جديد يدافع عن سنواته في “بيكار”، وفي ثلاثة أخرى كماركسي رفض أجندة “بيكار” السياسية، لكنه دافع عن أيديولوجيتها الثورية. وظهر خلال محاضراته الست الأخيرة كناقد إسلامي للماركسية وأعلن أنه أخيرا وجد الله بصدق. أعدم بعد وقت قصير من ذلك”(ص 168). على هذا النحو تقدم “قافلة الإعدام” حكاية موت مؤجل، حين يهب المرض العضال بلسم الحياة لمحكوم بالإعدام، فتتجلى بما هي مزيج من السيرة السجنية والمذكرات السياسية ورواية الواقعية التأملية، كتبت بنبرة حيادية تجاه الوقائع، بعد مضيّ عقود عما جرى، وتخففت من صيغ الإدانة والرثاء، لحساب مأرب التأريخ والتذكر. كما تخلد السيرة أسماء باتت بلا مجد، كان مجرد تقديم بورتريهات تقريبية لها واجبا أكبر من مساعي الانتقام أو حتى الإنصاف، هي شهادة تنضاف للعشرات من الشهادات الأخرى عن ثورة ونظام ومسار تاريخي، وعن حالات فردية لمناضلين ومثقفين كتبت لهم حياة جديدة لنقل عبورهم ونجاتهم من مرافئ ذلك الموت القديم.

مشاركة :