ما هي وظيفة الشعر؟ سؤال وجدتني أكرره كلما طرأ نقد على قصيدة لموقف سياسي، مع كل مديح وتأييد لشخصية ما، أو مع كل ذم وهجاء لأخرى. ظني يقين أن الناس لن تكون على قلب رجل واحد في شأن من الشؤون، فالآراء السياسية تحكمها المصالح، والمواقف السياسية متبدلة كالرمال المتحركة، فعدو اليوم صديق الغد، والعكس صحيح. كذلك المواقف من الناس مختلفة باختلاف موقف المريء من هذا الرجل، وتلكم الشخصية. وإن أكثر ما يؤاخذ الشعراء فيه هو مواقفهم من ممدوحيهم، ذلك أنهم بينما يمدحون رجلا أو جهة، يبرز من يقلل من شأن النص الشعري، نسبة لموقف سياسي معادٍ لهذا الممدوح أو تلكم الجهة. إذا ما هي وظيفة الشعر؟ ما أراه هو أن الشعر في ذاته وظيفته الإمتاع، والمؤانسة، والإدهاش، وبعث الإعجاب في النفوس، مهما يكن الموضوع الذي اتخذه الشاعر. وإن الموضوع أو الغرض الباعث على النص الشعري ما ينبغي أن يؤخذ في نقد الشعر، مادة نقدية ترفع من شأن النص أو تهبط به، وإلا فإنا أمام رأي غير الشعر ومعاييره المعروفة. إن الناظر إلى شعر المتنبي سيجد أن معظم شعره في المديح، ولما كانت الذائقة سليمة، لم ينظر كثيرا إلى موضوع القصيدة من حيث هو وإنما كان النظر في تفننه، وإتيانه بالمدهش. كان في تغريبه، وأساليبه إدهاشٌ صرف الناس عن الموضوع الذي قيلت فيه، مهما كان ذما أو مدحا. وعليه حكم على شعر المتنبي، وإلا فإن حوكم شعر المتنبي أخلاقيا، وفق ثقافاتنا اليوم فهو شاعر وضيع في غالب أشعاره. ولن يُعتد من شعره، إلا ما قاله في الغزل. ومعلوم بالضرورة أن غرضه من الشعر لم يخلو من طمع قط: كما هو في قصيدته: واحَرَّ قَلباهُ مِمَّن قَلبُهُ شَبِمُ حيث يقول: إذا ترحلت عن قوم وقد قدروا ألا تفارقهم، فالراحلون همُ وكذلك في قصيدته في مدح سيف الدولة: لكل امرئ من دهر ما تعودا، حيث يقول: أَجِزني إِذا أُنشِدتَ شِعراً فَإِنَّما بِشِعري أَتاكَ المادِحونَ مُرَدَّدا وَدَع كُلَّ صَوتٍ غَيرَ صَوتي فَإِنَّني أَنا الصائِحُ المَحكِيُّ وَالآخَرُ الصَدى تَرَكتُ السُرى خَلفي لِمَن قَلَّ مالُهُ وَأَنعَلتُ أَفراسي بِنُعماكَ عَسجَدا وَقَيَّدتُ نَفسي في ذَراكَ مَحَبَّةً وَمَن وَجَدَ الإِحسانَ قَيداً تَقَيَّدا إِذا سَأَلَ الإِنسانُ أَيّامَهُ الغِنى وَكُنتَ عَلى بُعدٍ جَعَلنَكَ مَوعِدا فالمتنبي في هذه القصيدة الجميلة الجميلة، والتكرار متعمد إعجابا، نراه يقول: أَجِزني، أي ادفع لي، وأكرمني. ثم يقول: تَرَكتُ السُرى خَلفي لِمَن قَلَّ مالُهُ وَأَنعَلتُ أَفراسي بِنُعماكَ عَسجَدا أي إني بمدحي إياك انتعلت أفراسي من فيض عطاياك عسجدا، هو الذهب، بل هو كل نفيس من الأحجار الكريمة. هذا لأفراسه فما بال ما سيكون له؟! ليس هذا فحسب، بل إنه يقول أنه يحب سيف الدولة لأنه يعطيه، ويكرمه، وأن حبه ليس خالصا للمحبة المطلقة، اسمعه يقول: وقيدتُ نفسي في ذراك محبةً ثم يأتي بسبب المحبة فيقول: ومن وجد الإحسان قيدا تقيدا إِذا سَأَلَ الإِنسانُ أَيّامَهُ الغِنى وَكُنتَ عَلى بُعدٍ جَعَلنَكَ مَوعِدا إذن سيف الدولة إنما هو مورد الغنى، وإن الناس تأتي إليه تبغي ماله لا حسنه وجماله. أو مثل قوله في قصيدة: أُغالِبُ فيكَ الشَوقَ وَالشَوقُ أَغلَبُ، والتي مدح فيها كافور الإخشيدي: وَأَخلاقُ كافورٍ إِذا شِئتُ مَدحَهُ وَإِن لَم أَشَأْ تُملي عَلَيَّ وَأَكتُبُ إِذا تَرَكَ الإِنسانُ أَهلاً وَراءهُ وَيَمَّمَ كافوراً فَما يَتَغَرَّبُ إلى أن يقول: أَبا المِسكِ هَل في الكَأسِ فَضلٌ أَنالُهُ فَإِنّي أُغَنّي مُنذُ حينٍ وَتَشرَبُ وَهَبتَ عَلى مِقدارِ كَفّى زَمانِنا وَنَفسي عَلى مِقدارِ كَفَّيكَ تَطلُبُ إِذا لَم تَنُط بي ضَيعَةً أَو وِلايَةً فَجودُكَ يَكسوني وَشُغلُكَ يَسلُبُ في هذه الأبيات المختارة من القصيدة، سنجد أن المتنبي يبالغ ويقول أن أخلاق كافور الإخشيدي، تملى عليه إملاء وإن لم يشأ هو الكتابة، علما بأن كافور كان رجلا خلوقا بالفعل. ثم إنه يقول إن الإنسان إذا ترك أهله، وتغرب حيث يوجد كافور فإنه ليس بغريب الدار. ثم يقول: أَبا المِسكِ هَل في الكَأسِ فَضلٌ أَنالُهُ فَإِنّي أُغَنّي مُنذُ حينٍ وَتَشرَبُ وهو تعريض باستبطاء العطاء كما يقول أبو البقاء العبكَري، في شرح ديوان أبو الطيب المتنبي. ثم إنه يبالغ بصورة أكثر وضوحا في السؤال فيقول: وَهَبتَ عَلى مِقدارِ كَفّى زَمانِنا وَنَفسي عَلى مِقدارِ كَفَّيكَ تَطلُبُ والمبالغة هنا أنه المتنبي يقول لممدوحه كافور الإخشدي إنك وهبتني من العطاء على مقدار كفي الزمان، وإن كفا الزمان أقل من كفيك، فهبني بكفيك الأكبر والأكثر عطاء. ويبالغ أكثر في السؤال ويقولها صراحة بعد إشارة فيقول: إِذا لَم تَنُط بي ضَيعَةً أَو وِلايَةً فَجودُكَ يَكسوني وَشُغلُكَ يَسلُبُ إذا نظرنا إلى هذه القصيدة الجميلة من وجهة نظر أخلاقية، بعيدا عن المبنى الجميل، إذا ما أخذناها موضوعا وغرضا، كانت صفرا كبيرا. ولكن ما هكذا ينبغي أن يؤخذ الشعر بعيدا عن ذاته، وإنما ينبغي أن نقول أحسن الرجل في قول الشعر وأساء لا في الموضوع والغرض من حيث هو معيب بعين هذا ومستحسن بعين ذاك، وكم بكل أسف رفعت قصائد وعلا شعراء لأغراضهم الشعرية دون شعرهم. نعم، إذا نظرنا إلى الشعر من حيث الموضوع والغرض، وما بني لأجله استهجنا كل شعر إلا ما يوافق فطرتنا وثقافتنا، لكن إن نظرنا إلى جمال البناء انصرفنا من المادة البحتة إلى المعاني الشعرية الجميلة في النظم والخيال والتغريب، فاكتسبنا بذلك متعة، ورأينا الموضوع، والغرض جسم التمثال كله، أي كتلة ليس فيها من كثير جمال، وإنما الجمال في الجزء الخارجي. تماما كالإنسان وصورته في التشريح مقابل صورته الخارجية، وكمال عقله بعيدا عن تلكم الكتلة القبيحة من الدماغ بأعيننا. نعم، لا ينبغي أن نستصحب الدماء والشرايين والأعصاب والعظام ونحن نحتضن من نحب، بل ينبغي أن ننظر إلى ما هو بين أيدينا من جمال، وإلا ما تلذذنا بجمالٍ قط. هكذا أرى أن ينظر إلى القصيدة من حيث بنائها، لا من حيث موضوعها، وإلا كنا ظالمين للشعراء، منكرين عليهم جمال أشعارهم بسبب انتماءاتنا، وآرائنا، بعيدا عن الشعر، فلا يغدو الأمر شعرا، وإنما سياسة، وغيرها من المواضيع اللا شعرية.
مشاركة :