في أواخر شهر ديسمبر من العالم المنصرم، وأوائل شهر يناير من العام الحالي، عطست مدينة ووهان عاصمة مقاطعة هوبي في الصين، عطسة مدوِّية، نشرت إثرها البلايين من فيروس كورونا المستجد (كوفيد - 19)، فأصابت العالم كله تقريباً بزكام حاد خطير، إذ وصلت العدوى - حتى كتابة هذا المقال - إلى (144) دولة، مما أوقع نحو (400.000) مصاب، فيما أودى الفيروس بحياة نحو (15.000) مصاب في العالم حتى هذه الساعة، (90 %) منهم في إيطاليا، الصين، إسبانيا وإيران على التوالي؛ فيما تركَّزت الإصابات في الصين، إيطاليا وأمريكا على التوالي أيضاً. ليس هذا فحسب، بل حدث أن فقدت إيطاليا التي سجَّلت أعلى رقم للوفيات نتيجة الإصابة بهذا الوباء الغادر القاتل، أكثر من (800) شخص في يوم واحد، أي بمعدل (13) نفساً، تتساقط كل دقيقة، كما تتساقط أوراق الأشجار الذابلة في خريف قاحط. وأكثر من هذا، بلغت الجرأة بهذا الفيروس الخطير للتشبث برقاب بعض أصحاب الوظائف المرموقة في البيت الأبيض، كما دخل دهاليز القيادات العليا في كندا، البرازيل وألمانيا وغيرها، ووصل حتى أنقولا في وسط إفريقيا؛ والله وحده علاَّم الغيوب هو الذي يدري إلى أين سينتهي به الأمر، وكيف ينتهي؛ وإن كنت أتمنى السلامة للجميع. فأصاب العالم ذعر وهلع ودخل في حالة هستيرية غير مسبوقة، اضطرت سكان معظم البلدان التي حط فيها الفيروس رحاله لكتم أنفاسهم وحبس أنفسهم بين أربعة جدران، منعاً لانتشار العدوى التي سرت في الناس كالنار في الهشيم، مما اضطر الرئيس الأمريكي ترامب لإعلان منطقتي نيويورك وكاليفورنيا منطقتي كوارث، بل أكثر من هذا أيضاً: تتوقّع أمريكا أن يُصاب بين (60 - 70) مليون من مواطنيها؛ والأمر أكثر فداحة في إيران التي تتوقَّع أن يُصاب بين (50 - 75 %) من مواطنيها بفيروس كورونا المستجد هذا، إذا وضعنا في الحسبان قدرات إيران الطبية المتواضعة، مقارنة بما لدى أمريكا من تقنية طبية متقدِّمة على مستوى العالم. الأمر الذي دفع أمريكا والصين لتبادل الاتهامات بينهما بتحضير هذا الفيروس ونشره لأغراض اقتصادية بحتة، بل ذهب الرئيس الأمريكي بعيداً ليصف هذا الفيروس بـ(الفيروس الصيني). وبالطبع كان لا بد أن يكون لأمر جلل كهذا الذي لم تشهد له البشرية مثيلاً منذ الحرب العالمية الثانية، تداعيات خطيرة على الصعيدين الاقتصادي والاجتماعي، كما أكدت المستشارة الألمانية ميركل قائلة: (كورونا أهم تحدٍّ يواجه البشرية بعد الحرب العالمية الثانية)، بل أكثر من هذا: رأى بعض المهتمين في هذا الوباء الغادر القاتل، نذر حرب عالمية ثالثة، لا سمح الله. فكان بدهياً أن تهوى أسعار النفط، وتخسر البورصات على امتداد العالم تريليونات الدولارات، وتتأثر الحكومات والأفراد على حدٍّ سواء بهذه الضربة الموجعة المفجعة التي دفعت الصين مثلاً لفرض حجر صحي ملزم على ستين مليون شخص؛ بل تتجه منظمة الصحة العالمية اليوم - مع تفاقم الوضع - لفرض حجر صحي على سكان العالم كلهم، على اعتبار أن الحجر الصحي يُعَدُّ خط الدفاع الأول لمنع انتشار العدوى في ظل غياب علاج ناجع أو تطعيم واقٍ - بإذن الله. وبصرف النظر عمَّا إذا كان هذا الفيروس الخطير الغادر القاتل خدعة صينية أم خدعة أمريكية كما يتردد اليوم، هرعت الدول التي ظهر فيها الوباء مذعورة لاتخاذ تدابير وقائية عديدة، سعياً لتجاوز المحنة بأقل قدر من النقص في الأموال والأنفس والثمرات. فكان طبيعياً أن يكون للمارد السعودي قصب السبق كعادته دائماً؛ فأقرت القيادة الرشيدة ممثلة في سيدي الوالد خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز، وأخي صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان ولي العهد الأمين نائب رئيس مجلس الوزراء وزير الدفاع، تدابير عاجلة ناجعة لتخفيف الآثار على الأنشطة الاقتصادية والقطاع الخاص بأكثر من مائة وعشرين مليار ريال. وواصلت لجان من (18) جهة حكومية الليل بالنهار العمل، مستفيدة من خبرة الدولة السعودية الطويلة المتجذرة في طب الحشود للحد من انتشار الوباء داخلياً، ورفع الضر عن كل المتأثرين بتلك الإجراءات من المواطنين أو المقيمين على حدٍّ سواء، إذ تأتي صحة المواطن والمقيم وسلامتهما في المرتبة الأولى في سلم أولويات العمل الحكومي. وتنوّعت تلك الإجراءات الذكية السريعة الناجعة بين إعفاءات، تأجيل بعض المستحقات الحكومية، دعم المنشآت الصغيرة والمتوسطة، تنويع مصادر التمويل، تخصيص مبالغ إضافية لقطاع الصحة حسب الحاجة، تخصيص ميزانية طوارئ لتغطية أي تكاليف قد تطرأ أثناء تطورات هذا الحدث العالمي، وغير هذا كثير من إجراءات في غاية الأهمية لتعزيز كفاءة الأداء المالي والاقتصادي، والتخفيف من حدة الوباء من الناحيتين الصحية والاجتماعية. وقد أكد هذا سيدي الوالد خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان في خطابه الشهير للأُمَّة يوم الخميس 24-7-1441هـ، الموافق 19-3-2020م، الذي جاء فيه: (المملكة حريصة على توفير ما يلزم المواطن والمقيم من دواء واحتياجات معيشية)، مؤكداً -حفظه الله - أننا: (سنواجه المصاعب بالإيمان، والعمل بالأسباب، وبذل الغالي والنفيس للمحافظة على صحة الإنسان). وصحيح أن ما قدمته مملكة الخير والإنسانية للمواطن والمقيم من دعم سخي لمواجهة المحنة في الداخل، أمر تقاصرت عنه حتى ما قامت به دول عرَّفت نفسها بـ(الدول العظمى)، إلا أن هذا لم يكن كل طموح يد الخير الطولى - على أهميته - إذ امتدت للعالم لكي تساعده في السيطرة على هذا الوباء الخطير، فقدمت مساعدات سخية لجمهورية الصين في بداية ظهور الفيروس، كما قدمت دعماً سخياً أيضاً لمنظمة الصحة العالمية لمساعدة الدول الفقيرة، في حين أظهرت هذه الأزمة عوار دول الاتحاد الأوروبي، إذ رفضت كل من ألمانيا وفرنسا دعم إيطاليا حتى بالكمامات. من جهة أخرى، اتسم خطاب سيدي الوالد خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بالشفافية، إذ أكد لشعبه: (نمر بمرحلة صعبة، والقادم أصعب)، مؤكداً في الوقت نفسه عزم القيادة على مواجهة الأمر وتعاون الشعب مع دولته التي تعمل بلا كلل أو ملل لضمان سلامته والمحافظة على صحته وأمنه، إذ يقول: (عازمون على مواجهة الأزمة، وتعاون الشعب مع أجهزة الدولة أمر مهم للغاية). والحقيقة في الوقت الذي أظهرت فيه هذه المحنة زيف الدول التي تطلق على نفسها (العالم الأول) وكذبها ونفاقها في ادعائها إنها رسول سلام وخير للبشرية يبحث عن رفاهيتها وحريتها وديمقراطيتها وحقّها في الحياة، أكدت للعالم بأسره هذه اللحمة الوطنية السعودية الفريدة النادرة بين القيادة الرشيدة، ممثلة في سيدي الوالد خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان وابنه البار النجيب أخي صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان ولي العهد؛ من خلال تجاوب المواطنين - بل والمقيمين - المنقطع النظير، إذ استقبل الجميع تلك الإجراءات بصدر رحب، بل قل بفرح شديد وتقدير وعرفان وامتنان لقيادتهم، مؤكدين لها التزامهم لها بما قطعوه على أنفسهم من عهد في بيعتهم المتجدِّدة دوماً على السمع والطاعة في المنشط والمكره.. كل هذا يحدث في مملكة الخير والإنسانية في حين ينشغل (العالم الأول) المزيّف بالتكالب على صناعة دواء ولقاح كيفما أتفق للفوز ببراءات الاختراعات وحقوق الإنتاج. وصحيح.. التفكير في دواء ناجع ومصلٍ واقٍ، بإذن الله، أمر في غاية الأهمية، شريطة أن يكون ذلك بنية صادقة لخلاص البشرية مما تواجهه من محنة قاسية، وليس بهدف تحقيق الكسب المادي فحسب. وعلى كل حال، مثلما ينبلج الصبح من عتمة الليل البهيم، كان لا بد لكل من يتأمل الوضع أن يدلي بدلوه، إن كان لديه ما يفيد لمصلحة الجميع، إذ ينبغي ألا يحتقر أي منَّا جهده مهما كان متواضعاً. وعليه أرى من خلال هذه المحنة التي أسأل الله أن يحمي الجميع منها: 1. ضرورة التنسيق بين مختلف دول العالم، لاسيَّما الدول المقتدرة منها، ونبذ كل الاختلافات السياسية من أطماع اقتصادية وتجارية وغيرها في هذه المرحلة، أو على الأقل، تأجيلها إلى حين انقشاع الغمة، ومن ثم توحيد الجهود لمحاصرة الفيروس وإنقاذ البشرية من كارثة محدقة، لا تفرق بين غني وفقير، أو عالم أول وعالم ثالث وغيرهما. 2. ضرورة تفعيل دور المؤسسات الدولية المعنية، وتمكينها من أداء رسالتها على أكمل وجه. 3. على إفريقيا التي نهشت جسدها أعداء الإنسانية من جهل وفقر ومرض بسبب ما جثم على صدرها من أنظمة حكم استبدادية منذ بزوغ فجرها، عليها أن تعلق الجرس، وتستعد من الآن لليل طويل، ربَّما لا يعقبه صبح، قبل فوات الأوان. 4. وهنا أخاطب العرب الذين انسحبوا (طوعاً) بمحض إرادتهم من المشهد، ليجلسوا على كراسي المتفرِّجين، ويأتوا دائماً في آخر الركب، بعد أن استمرؤوا تأكيد كل ما يقولونه أو يكتبونه بما قاله العالم الأمريكي أو الخبير الألماني أو المستشار البريطاني ... إلخ، للأسف الشديد.. أقول، أخاطب العرب من قلب مسكون بالوجع على واقع الأُمَّة بسبب هذا التقهقر المخزي في كل الميادين، والانسحاب إلى أماكن المتفرِّجين؛ أخاطبهم لتحويل (جامعة الدول العربية)، التي لا أعرف لها إنجازاً حقيقياً منذ إنشائها قبل ثلاثة أرباع القرن، إلى مركز للأبحاث، يُعْنَى بالتعامل مع الأمراض والأوبئة المستجدة، بدلاً من انتظار الغرب في كل صغيرة وكبيرة.. يصدقنا أو يكذب علينا، بقدر ما يحقق من مصلحة ذاتية، بعيداً عن كل هذا الهراء من ديمقراطية وحقوق إنسان ومعلومات ممجوجة لاستغلالنا. 5. أخيراً: لا بد لي من توجيه الشكر والعرفان والامتنان لقيادتنا الواعية الرشيدة الذكية، مقروناً بالدعاء لله الواحد الدَّيان، أن يعينها ويحفظها ويسدِّد خطاها. وبالطبع حبل الشكر موصول لهذا الشعب السعودي الوفي الذي أدهش العالم بتكاتفه وتآزره وتعاونه مع قيادته، وذكائه الذي فضح أصحاب الشائعات المرتزقة المرجفين، الذين لا هم لهم غير استغلال الظروف مهما كانت قاسية للنيل من دولة الرسالة الفتية؛ لكن هيهات.. هيهات وفينا أبو فهد وعضده الأمين أبو سلمان، ولدينا هذا الشعب الراقي المتعلِّم، الذي علَّم اليوم العالم كله بعدما كان البعض يعيِّره بالصحراء والبعير؛ فتقدمنا نحن إلى الصفوف الأمامية مع العشرين الكبار، فيما تراجع أولئك القومجية إلى ما بعد مقاعد المتفرِّجين. أخيراً وليس آخراً، لا أملك غير رفع الأكف إلى الله القوي المتعال القادر على كل شيء، أن يزيل الهم، ويكشف الغم، ويحفظ الأُمَّة من كل مكروه.
مشاركة :