أنا ضد فكرة الثورة؛ ولكنني مع بذر أسسها لكي ينمو هيكلها ولو بعد حقب، كما حدث في إنجلترا. إن حل مشكلات الثورة التي تهدم أصعب في رأيي من إيجاد حلول لمشكلات البناء المتدرج والإصلاح الديموقراطي. ولكن كيف تقام ركائز التحول الديموقراطي طويل الأمد، والذي لا يتضرر منه أحد من الأحياء ويستفيد منه الأبناء والأحفاد؟ وجدت كتابًا بعنوان «Social Origins of Dictatorship and Democracy» للكاتب Barrington Moore,Jr، وفيه الإجابة عن التساؤل المطروح. وهو يعرف التحول الديموقراطي بإلغاء القوانين العشوائية، واستبدالها بقوانين عقلانية، وأن يحصل الشعب على نصيب في إنشاء هذه القوانين الجديدة. كما يحدد الكاتب أن بعض الأسس الهيكلية لبعض المجتمعات الغربية سهلت التحوّل لحكم الشعب، منها حصانة البعض عن قوى الحاكم، وفكرة أحقية الخلاف معه إذا أخطأ، ومنها حرية التعاقد بين أفراد الشعب بما يضمن حقوقًا عدة أهمها التجارية. وفي وجود هذه البذور -في رأيي- وفي حالة حدوث المد والجزر بين قوة الحاكم والمحكوم، (وهذا لا بد حاصل مع تغيرات الزمن وتسارع العهد الجديد)، ستحدث فرصة للتعادل بين القوى، وتنشأ الديموقراطية. هذا وتساعد استقلالية النخب عن الحاكم ماديًّا ووظيفيًّا، ويساعد ظهور الطبقة الوسطى على تعزيز فرص الديموقراطية، ففي إنجلترا مثلاً انقلب الحال من الملكية إلى الديموقراطية؛ لأن أحد الحكام احتاج إلى مال النخب، والذي حصلت عليه النخبة بالتجارة. ويجدر بالذكر أنه إذا لم يوجد المال عند النخب -ذلك المال الذي يساعد الحاكم عند الإتيان بمصالح الدولة، والدفاع عنها إذا ما دعت الحاجة- قد يفقد الجميع الكثير. فإذا لم توجد تجارة وشح المال بيد الشعب قد تقوم ثورة للطبقات الدنيا والتي قد تأتي باشتراكية، أو زعزعة، أو حكم للرعاع كما يقول المؤلف. العلم والإحسان في توزيع الثروة عبر التجارة يبني الطبقة الوسطى والتي قد تدرؤ بدورها حكم الرعاع، ولكنها تبذر كذلك لأسس التحوّل الديموقراطي بعيد المدى. وهذا سبيل لا بد منه -في رأيي- إذ إن الضعف في توزيع الثروة، وفي الطبقة الوسطى، وفي التجارة في فرنسا أدّى إلى ثورة جياع أودت بحياة الكثير، وتسببت في فوضى عارمة على مدى سنين، ذلك لأن الفلاحين لم يتحولوا إلى تجار كما حدث في إنجلترا. وفي النهاية عليّ أن أذكر أن بذور الديموقراطية لا تعني الاستقرار فور البذر، ولكنها تعززه بعد أن يكتمل هيكلها، إذ إن الحروب الداخلية في إنجلترا استمرت رغمًا عن البذور، ولكنها استكانت بعيد التحول الديموقراطي.