تصبح بعض الأحداث محطات أو مفاصل زمنية مميزة في حياة الشعوب، حين تترك من التأثيرات، سلبية أم إيجابية، ما يتجاوز زمن حدوثها، أو تتخطى أحياناً موقع حدوثها لتصبح ذات أهمية مميزة على مستوى إقليمي أو دولي، كما هو الحال في أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001، فهل سيشكل إعلان لوزان، المزمع التوقيع عليه بشكل نهائي، بين إيران والدول الكبرى الستة، في الثلاثين من يونيو الجاري، مفصلاً زمنياً هاماً في منطقة الشرق الأوسط؟. النقاشات التي تدور حالياً بين وفدي الدول الكبرى وإيران في العاصمة النمساوية عن بعض التفاصيل التي تتعلق بتنفيذ الاتفاق، خاصة المديات التي تذهب إليها فرق التفتيش الروتيني أو المفاجئ، لن تغير من طبيعته. حين خسر العراق الحرب عام 1991 أمام قوات التحالف الدولي، بقيادة الولايات المتحدة، اضطر من موقع المهزوم للكشف عن التفاصيل المتعلقة ببرنامجه النووي، وبرامجه التسليحية الكيمياوية والصاروخية، وتبعاً لذلك، أذعن لطلبات فرق التفتيش التابعة للوكالة الدولية للطاقة الذرية، وفرق التفتيش الأخرى عن الأسلحة الكيميائية، بفتح جميع مواقعه.. وبضمنها المواقع العسكرية للتفتيش. واضطر كذلك للموافقة على قيام الخبراء التابعين للمنظمات الدولية بإجراء مقابلات مع العلماء العراقيين ذوي العلاقة بهذه البرنامج، واستجوابهم بغية انتزاع ما أمكن من المعلومات. إيران تواجه موقفاً مشابهاً لذلك في بعض الوجوه، رغم أنها لم تخسر حرباً أمام الأسرة الدولية، ولكنها خسرت قدرتها على الاستمرار بالبقاء تحت طائلة منظومة عقوبات شديدة، أنهكت اقتصادها إلى حد كبير. هذه العقوبات لم تنجح بمنعها من المضي قدماً، بل الإسراع ببرنامجها النووي.. إلا أنها نجحت بعد حين لجلبها إلى مائدة التفاوض، التي تمخضت عن إعلان لوزان. ثمة تناقض في العلاقة الملتبسة التي تربط إيران بالأسرة الدولية، في ما يتعلق بالبرنامج النووي، وهذه مفارقة أفرزتها المسيرة الطويلة في التفاوض، منذ الكشف عن البرنامج النووي الإيراني المثير للجدل عام 2003. فقد كان المفاوض الإيراني بارعاً في استخدام مختلف الأساليب للمماطلة والتسويف وإطالة أمد المفاوضات، للاستفادة من الوقت، لتحقيق المزيد من الإنجاز في برنامجه النووي، للوصول إلى نقطة اللاعودة.. وقد حقق الكثير من النجاحات في هذا السياق، أوصلته إلى مسافة قريبة من امتلاك سلاح نووي. إلا أن الوضع قد بدأ بالتغير، ليصبح عكس ذلك، حين بدأ الحصار يطبق على الاقتصاد الإيراني، وحين بدأت العقوبات الدولية تنهش جسد النظام، فأصبح أكثر حرصاً من الأسرة الدولية على الإسراع في المفاوضات للوصول إلى تسوية تفتح له باب التخفيف من العقوبات. إعلان لوزان لم يترتب على اتفاق بين طرفين يثقان ببعضهما البعض، بل عكس ذلك، فالعقوبات التي فرضت على إيران بسبب البرنامج النووي، لن ترفع فوراً، وإنما بشكل تدريجي يتلاءم مع مدى تنفيذ إيران للاتفاق. أما بقية العقوبات التي فرضت عليها بسبب التجاوزات في مجال حقوق الإنسان، أو مساندتها للمنظمات الإرهابية، أو بسبب برنامج الصواريخ البالستية، فسوف تبقى كما هي. فعلى مدى السنوات العشر المقبلة، ستبقى النوايا الإيرانية موضع شك واختبار لدى الأسرة الدولية، وهو ما سوف يترك الكثير من التداعيات والإشكالات على مشهد العلاقة بين الطرفين طيلة هذه الفترة، التي من المتوقع ألا تخلو من أزمات. فاتفاق لوزان لن ينهي ما تركته ثلاثة عقود ونصف من التوترات على علاقات إيران بالغرب من جهة، ولن يجعل دول المنطقة أقل قلقاً على أمنها من جهة أخرى. فالغرب حريص جداً على منع إيران من استغلال البرنامج النووي المحدود الذي سمح لها بحيازته في اتفاق لوزان، للحصول على ما يكفي من اليورانيوم المخصب لصنع سلاح نووي. فنظام المراقبة والسيطرة على البرنامج النووي الإيراني، محكم وصارم إلى درجة غير مسبوقة، يتجاوز المنشآت النووية، ليشمل مواقع عسكرية كذلك، على الرغم من تكرار تصريحات المسؤولين الإيرانيين، وعلى رأسهم المرشد الأعلى خامنئي، بأن تفتيش المواقع العسكرية الإيرانية واستجواب العلماء الإيرانيين، لن يسمح به، ولن يكون ضمن الاتفاق النهائي.
مشاركة :