خيري منصور تحقيب التاريخ بحيث يقسم إلى ما قبل حدث ما وما بعده، كما قيل عن أحداث سبتمبر/أيلول الأمريكية عام 2011، أصبح بمتناول الجميع وتبعاً للنوايا. والحقيقة أن الأحداث الجسام حتى لو بدت كما لو أنها فاصلة وفارقة ليست مؤهلة لشطر التاريخ مرة أخرى بعد ميلاد السيد المسيح إلى ما قبل وما بعد؛ لأنه ما من حدث يولد فجأة كنبت شيطاني. ولا بد له أن يكون ضمن سياق ما، مسبوقاً بمقدمات تمهد له، وملحوقاً بترددات قد تستمر زمناً طويلاً، كالحروب الكونية، التي عاشها العالم في النصف الأول من القرن العشرين! وعلى سبيل المثال لا الحصر، فإن السجالات والبيانات الأيديولوجية في القرن التاسع عشر مهدت لصراعات كبرى انتهت إلى حروب في القرن الذي أعقبه.هذا على الأقل، ما يراه هنري أيكن أحد أبرز مؤرخي القرن التاسع عشر. وبهذا المقياس فإن ما يجري الآن في العالم ليس الوليد البكر لهذه الألفية، فهو امتداد لما سبقه في نهايات القرن الماضي، وانفجار لما تراكم من مكبوتات سواء كانت سياسية بالمعنى العام أو إثنية ذات صلة بالهويات التي أصبحت في أيامنا تراوح بين القاتلة والخانقة والجريحة كما يسميها الباحثون، ومنهم اللبناني الذي يكتب بالفرنسية أمين معلوف، والكاتب الإيراني داريوش!والبحث عن جذور الظواهر التي نعيشها الآن ليس تفتيشاً في الدفاتر القديمة بسبب الإفلاس كما يقال؛ بل لكي تكون أية جراحة فكرية دقيقة وغير مهددة بما يُسمى في المعجم الطبي الدمج أو الاختلاطات.لهذا لم تعد قراءة التاريخ ضرباً من التسلية أو سرد الحكايات، التي لا تخلو من طرافة؛ بل هي وقاية استباقية أو لقاحات مبكرة كما يصفها بعض المؤرخين المعاصرين؛ كي لا تتكرر أخطاء الماضي وتصبح خطايا!وكم كان ابن خلدون رائداً وسبّاقاً حين رأى أن التاريخ ليس صادقاً على الدوام. وأن قراءته غير الأفقية بحاجة إلى مقارنة القرائن؛ لترجيح رواية على أخرى.لكن الرجل لم يعش حتى أيامنا ليرى الحدث مصوراً بكل تفاصيله، رغم أن هذا التوثيق التكنولوجي للأحداث لم يسلم من التلاعب وإعادة الإنتاج!
مشاركة :