الفيلسوف الجزائري د. محمد شوقي الزين: عالم جديد ما بعد كورونا

  • 4/16/2020
  • 00:00
  • 1
  • 0
  • 0
news-picture

كان لا بدّ لجائحة العصر الكبرى: «كورونا» أن تفرض نفسها على مطلق الأسئلة الفلسفية القديمة والحديثة، وتتجاوزها بسؤالها الفلسفي الطاغي على ما عداه، كون هذا الوباء غير المسبوق، بدأ يتحول من مجرد وباء مجهول وخطير إلى منتج لظاهرة إنسانية يتشكل بداخلها تقليد بشري مختلف وثقافة تداولية مغايرة ونظم علاقات لا قِبل لنا بها من قبل. والأخطر في هذا الوباء، أنه بات واقعاً لا رادّ له حتى اللحظة، وإنه قد يستمر في حصد الرؤوس والصدور إلى مدى يقدّره بعض علماء البكتريولوجيا بسنة ونصف السنة، وربما أكثر، فلنتخيل، إذاً، أي حالة رعب سنعيشها كآدميين طوال هذه المدة بانتظار ظهور العقار المنقذ العتيد. ومع جائحة فيروس كورونا فلسفياً، نحن بالتأكيد بحاجة إلى إبداع مفاهيم جديدة وقواعد استدلال غير معهودة، تنطلق من قلق اللحظة الكاسحة لتشتق عن تأويلات مغايرة تماماً، ولا متناهية تماماً للأشياء والعناصر المستجدة من حولنا، والهدف حتى الآن، تدارك ما يمكن تداركه من بقاء الحياة الطبيعية اليومية التي ألفناها كبشر، فالأسوأ من هذا الوباء ذاته، هو انتصاره على الحياة فينا وإخضاعها لتهديده المفتوح. نعم أحدث وباء كورونا «خربطة عالمية» على جميع المستويات، نظراً لطابعه الجديد والشرس والمفاجئ على حد تعبير الفيلسوف والمفكر الجزائري د. محمد شوقي الزين، الذي يرى أن قراءتنا لهذا الوباء ينبغي أن تكون «علائقية» لا «ماهوية» وذلك في حوارنا الآتي معه، والذي يدور محوره كله حول الفلسفة في زمن «الكورونا». في ما يلي نص الحوار معه: = أمام جائحة العصر الكبرى: «كورونا» سقط كل شيء، وباتت البشرية على مفترق طرق: إما المجابهة الشاملة، وبلا شروط، لهذا الوباء أو الفناء، وعليه ماذا بوسع الفلسفة أن تفعل؟ وأي فلسفة؟ - يمكن عدّ عصور الجوائح (الطاعون الأسود في القرن الرابع عشر، الإنفلونزا الإسبانية في بداية القرن العشرين، الكورونا في القرن الحادي والعشرين) بمنزلة المنعطفات الكبرى التي تتحدَّد بها مستويات الحضارة. هي فقط نوبات تجعل المنعطفات ممكنة، وعلى البشرية أن تجد بنفسها الطرق الملائمة لها في العيش الجديد بعد الجائحة. إذا تأمَّلنا جيّداً في مسار البشرية، يمكن تقسيم المنعطفات الكبرى خلال الألف سنة الأخيرة إلى ثلاثة نماذج (Paradigm) هي: «النموذج الديني- اللاهوتي» الذي نظَّم الحياة الغربية إلى غاية القرنين 16-17م، ثم «النموذج السياسي- الأخلاقي» بظهور مفهوم الدولة الحديثة في القرن الـ 18م إلى غاية انهيار القوام الذي تأسست عليه، وهو «الأمة - الدولة - الحزب» بانهيار الأنظمة الشمولية (النازية، الفاشية، الستالينية)، ثم أخيراً «النموذج الاقتصادي- المالي» في شِقه الليبرالي الذي يتعرَّض لهزَّات عنيفة. وهناك إمكانية لطرح نموذج رابع ستجعله جائحة «كورونا» ممكناً في منعطف جديد، يمكن له أن يتَّخذ صورة «البيئة - الصحة - الثقافة». معلوم أن هذه النماذج تشتغل كدوائر متداخلة، لأن النموذج الديني- اللاهوتي لا يزال يشتغل، لكنه فقد السيطرة التي كانت لديه في عزّ تسلُّط الكنيسة الكاثوليكية في الغرب، والنموذج السياسي- الأخلاقي لا يزال يشتغل كذلك، لكن دوره انحسر بالصعود الكاسح للنموذج الاقتصادي- المالي- الليبرالي بتراجُع مفهوم الدولة القُطرية (ذات الحدود المعلومة) لمصلحة تنقُّل الأشخاص والبضائع باسم عولمة مترامية الأطراف. إننا اليوم على عتبة تراجع هذا النموذج الثالث القائم في أساسه على الاستثمار والاستهلاك والاستغلال المفرط للثروات الطبيعية والمعدنية والنباتية والحيوانية. إننا على عتبة الانقراض المفجع للأصناف الحيوانية والنباتية باستنفاد الحظائر الممكنة للكوكب الأرضي. من هنا جاءت إمكانية الولوج في النموذج الرابع الذي يُعيد للطبيعة استحقاقها الأصلي؛ لأن البشرية باتت أمام خطورة واحدة وهي «الصراع من أجل البقاء». ما بوسع الفلسفة أن تفعله في خضم هذه التحوُّلات المتسارعة؟ وأيُّ فلسفة؟. الواقع أنه لا يوجد تعريف ثابت للفلسفة يمكن تداوله عبر العصور، وإن كانت هنالك تعريفات حافظت على مدلولها الإغريقي السابق في سُبُل التعاطي مع الحكمة النظرية والعملية، بل إن تعريف الفلسفة يخضع هو الآخر لإرهاصات كل عصر. نرى اليوم مثلاً عودة الفلاسفة المعاصرين إلى الأسئلة الفلسفية الكبرى التي ميَّزت الفلسفات القديمة، وهي أسئلة الحياة والموت والتضامن والنظر: 1. «تعلُّم العيش الحسن»، 2. «تعلُّم الحوار»، 3. «تعلُّم الموت»، 4. «تعلُّم القراءة». تُعوِّض هذه الرباعية التي أعاد الفلاسفة المعاصرين طرحها على بساط المناقشة وأقلمتها مع تحوُّلات العصر الرباعية الكانطية: 1. «ما بإمكاني معرفته؟»، 2. «ما يجب عليَّ فعله؟»، 3. «ما المسموح لي رجاؤه؟»، 4. «ما الإنسان؟». لم تعد المسألة اليوم مسألة أسئلة المعرفة والواجب والأمل والإنسان فقط كما بلورها كانط، بل أضحت أسئلة العيش والعلاقة بين البشر والموت والتأويل. أمام محن العصر لا يمكن للفلسفة سوى أن ترتدي مئزر الطبيب وأن تستعيد التعريف الذي طبعها منذ عصر القدماء، وهو «فن العيش» و«الطب الروحاني». الفلسفة هي الفن الذي يتيح لنا كيف نحيا في العصر ونوع العلاقة التي نقيمها مع الغير، وسرُّ ما نصطدم به ولا نفقه ألغازه كالمرض والموت والتأويلات الممكنة للعالم الذي ننتمي إليه. وبدلاً من السؤال الرابع الذي طرحه كانط «ما الإنسان؟»، تطرح الفلسفة اليوم سؤالاً يزيح الإنسان عن تمركزه وهو «ما الطبيعة؟» وكل ما يرتبط بها من قضايا البيئة والصحة والمرض والتصحُّر والتلوُّث والاحتباس الحراري واستنفاد الثروات. الثقافة امتداد للطبيعة = بدأ الجدل منذ الآن حول النموذج الكوني الآخر بعد كورونا. ميشال أونفري، وهو كما تعرف من فلاسفة ما بعد الحداثة في فرنسا، زجّ نفسه في الموضوع مندّداً بانعدام كفاءة القادة الأوروبيين واستهتارهم الشديد بالوباء، حتى سقطوا ضحيته، وباتوا لا يلوون على شيء، مستنتجاً بأن أوروبا «أضحت العالم الثالث الجديد»... ما تعليقك؟ - ميشال أونفري هو فيلسوف مناظر ومشاكس، لا يهدأ له بال أمام الضمانات الزَّائفة للعصر الذي نحياه. لقد فتح النار على الغرب منذ كتابه «الانحطاط.. حياة وموت الثقافة اليهودية - المسيحية» (2017)، ليقوم على الطريقة النيتشوية بتفكيك تلك الضمانات الزَّائفة ومنها: مركزية الإنسان على العموم، ومركزية الإنسان الأبيض على وجه الخصوص، بالمقارنة مع الأجناس الأخرى، وكذلك مركزية الغرب بالمقارنة مع الشرق... إلخ. هناك مركزيات تبنَّاها الغرب أو جعل منها أساسيات وجوده في العالم، بدت هشَّة اليوم بالمقارنة مع قوى ناشئة في أقاليم أخرى من العالم كالقوة الآسيوية، هشَّة بالنموذج الثالث «الاقتصادي- المالي» الذي ضحّى بالشُغل (تسريح العُمال وانتشار البطالة) والصحة (النقص الفادح في المعدَّات بداعي خفض النفقات وتفادي التضخُّم) ولم تعد قادرة على تلبية الرغبات الملحّة في ظل التزايُد الديمغرافي، وإن كانت بعض الدول الأوروبية تعاني انحسار معدَّل الولادات فيها كألمانيا مثلاً. جاء سخط الفيلسوف أونفري من حيث إن أوروبا استهانت بالخطر الذي يُمثِّله فيروس كورونا، وراحت تصفه على أنه مجرَّد إنفلونزا طفيفة نظراً للتشابه في الأعراض، علاوة على التأخر في اتخاذ القرارات الناجعة. وفي زمن الطوارئ الكبرى ينبغي ألا نتعامل مع الخطر من وجهة نظر «استراتيجية» تقتضي التخطيط ودراسة الوضع، بل باتخاذ القرار «التكتيكي» الفوري، لأن الوقت عاجل وكل يوم يمضي، يعني المزيد من المرضى والموتى، وهذا ما أخفقت فيه أوروبا إلى أن احتلت الصدارة اليوم في عدد المصابين بالفيروس. وباعتباره شديد العدوى والانتشار، ضرب فيروس كورونا النموذج الثالث (الاقتصادي- المالي- الليبرالي) في العمق، ما تسبّب بإيقاف الآلة الإنتاجية بنسبة كبيرة، فأغلقت المحال التجارية والمقاهي والمطاعم وتوقفت الرحلات الجوية وحركة المرور. وبدأ هذا النموذج يتكبَّد خسائر فادحة، راهناً وعلى المدى البعيد. = جاك أتالي تحدث أيضاً أنه في حال فشل النظم الليبرالية الغربية في وضع حد نهائي «لهذا التسونامي الصحي والاقتصادي» فستظهر بالضرورة سلطة جديدة، بمفاهيم جديدة وإنسان جديد... ماذا تقول؟ - مثلها مثل كل الجوائح في التاريخ، ستُغيّر كورونا العديد من الأشكال والمعادلات السياسية والإقليمية. يتحدَّث جاك أتالي من منظور «العلم الكلي»، لأنه يرى بأن الفشل في وضع حدّ لهذه الجائحة، سيكون دافعاً نحو حكومة عالمية، تكنوقراطية، تتَّخذ القرارات دون مشاورات ديمقراطية، فندخل بموجبها في سلطة جديدة تتغيَّر معها المفاهيم وأدوات القراءة وآليات التشخيص. يتنبَّأ البعض أصلاً بسقوط الديمقراطية الليبرالية والدخول في مرحلة الشعبوية والأنظمة المتطرفة، الوطنية منها (كاليمين المتطرف) والدينية ذات النزوع الشمولي. وأنا لا أظن ذلك، لأن الأمم حصلت على مكاسب لا يمكن أن تتراجع عنها في ظل ممارسات ديمقراطية في المشاورة وشيوع الوسائط الاجتماعية على الشبكة. ربما هناك انحسار طبيعي في الوعي البشري (كما حصل دائماً في التاريخ) شبيه بظاهرة المد والجزر، لكن لا يمكن الرهان على انهيار الديمقراطية الليبرالية وصعود أنظمة شمولية. صحيح أن هناك معادلة ظهرت مؤخَّراً وهي «الأمن مقابل الحرية»، بمعنى أن الأمم تُضحِّي بحريتها من أجل ضمان أمنها ضدَّ مخاطر محدقة. غير أن المعادلة كانت تخصُّ الإرهاب بالتعميم الكاسح للكاميرات وتبادل المعلومات بشأن أشخاص يُعدُّون خطراً على الأمن القومي، ولم تكن تخصُّ خطورة أخرى هي الوباء أو الجائحة. لأنه علينا أن نعرف بأن الوباء هو منعطف نحو صيغة جديدة من الوجود في العالم فقط، ولا يمكن قراءته من وجهة نظر ماهوية (essentialism). الوباء هو ما يتيح التغيير في الرؤية إلى العالم وإلى الحياة، لأن الوباء لا يدوم في الوقت طويلاً وغالباً ما يتراجع بوجود اللقاح، لكن الأثر الذي يتركه يُغيِّر من العوائد وحتى من السياسات والرؤى والمناهج. حديث جاك أتالي عن إنسان جديد هو في نظري إعادة رأب الصدع الذي حصل بين الطبيعة والثقافة. الخطأ المنهجي الذي ارتكبه الفكر الحديث والمعاصر، هو فصل الطبيعة عن الثقافة بوصفهما مفهومين متعارضين، حيث الأولى هي ظاهرة فظة وهمجية والثانية هي روح متسامية وحضارية. غير أن الثقافة هي امتداد للطبيعة والطبيعة تتخلَّل الثقافة. الحديث عن الإنسان الجديد هو إعادة وضع الإنسان في الطبيعة التي هو جزء منها، وإعادة النظر في العلاقات التي نعقدها مع أشياء وكائنات الطبيعة كالحيوان والنبات. بتغيير الرؤية إلى العالم والحياة يتغيَّر السلوك ونمط الوجود في العالم. «اللامتناهي في الصغر» = أمام فيروس جديد لامرئي، وما فوق بشري، يدخل «بذكاء» أسطوري إلى الخليّة، فيحوّلها إلى مليارات من الفيروسات القاتلة التي تبرمج نفسها بنفسها.. ألا ترى أنه من الأجدى الكفّ عن سجالات سيو/‏ فلسفية كهذه، والتصوّيب نحو هذا الفيروس الذي دمّر ويدمّر حياتنا كنوع بشري في الأساس؟ - عالم الفيروسات هو «اللامتناهي في الصغر» الذي يُشبه في ألغازه وأسراره عالم الكون وهو «اللامتناهي في الكبر». مثلما نرى العالم الأول بالمجهر (المايكروسكوب) لمحاولة ضبطه ودراسة سلوكه، نرى العالم الثاني بالمرصد (التليسكوب) لمحاولة فهم أبعاده ودراسة أصوله. بين اللامتناهي في الصغر واللامتناهي في الكبر علاقة تبادلية عبَّر عنها الفلاسفة بالرابطة التداخلية (Chiasmus)، كأننا نقول بأن الخلية هي «كون صغير»، وبأن الكون هو «خلية كبيرة». من إخوان الصفا إلى ليبنتز، كان هنالك دائماً افتتان بالعوالم المتماثلة في صُلب أبعادها المختلفة بين اللامتناهي في الصغر واللامتناهي في الكبر. في حقيقة الأمر، وكما يعرف علماء الأحياء، هناك فيروسات وجراثيم مفيدة للجسم الحيوي بأن تُقوّي مناعته وتدفعه لأن يتأقلم مع بيئته. غير أن هناك فيروسات خشنة أو قاتلة ينبغي التصدّي لها باللقاحات والعناية الصحية مثل «إيبولا» في أفريقيا قبل سنوات واليوم مع كورونا (كوفيد 19) وإن لم توجد لقاحات لحدِّ الساعة، مع عدا بعض الطرائق العلاجية مثل استعمال «الكلوروكين» الذي يُستعمل عادةً ضد مرض طفيلي مثل الملاريا. لا شك أن فيروس كورونا أحدث «خربطة» عالمية على جميع المستويات، نظراً لطابعه الجديد والشرس والمفاجئ (فهو فيروس لم يعهده علماء الأحياء من قبل، سوى ربما إحدى فصائله مع «سارس» أو «متلازمة تنفسية حادة وخيمة» التي ظهرت عام 2002 في الصين). قراءتنا له ينبغي أن تكون «علائقية» لا «ماهوية»، أي أن نرى نظام الحقيقة الذي يتيحه للعالم في الشهور والسنوات المقبلة. إذا تكلمنا بمنطق راهني، نقول بأن «الخربطة العالمية» تجلَّت في نظام العلاقة بين البشر عبر المباعدة بتفادي التحية باليدين أو الاقتراب من الأشخاص واتباع تدابير وقائية كغسل اليدين والتزام البيت. لا يمكن أن ننسب للفيروس ذكاءً فوق العادة لأنه يتبع القانون الطبيعي الذي يحتويه. قراءتنا له هي في الغالب تشبيهية (Anthropomorphism)، بأن ننسب إليه الحيلة والمناورة ونصف مواجهتنا له بالحرب الضروس، وإن كانت هذه الصورة الاستعارية مشروعة، لأن حياتنا برمَّتها قائمة على التشبيه الصوري وعلى المجاز. ما يمكن التأكُّد منه هو أن دراسة سلوكه هي رهن المتابعة العلمية من أجل ضبطه إلى غاية إيجاد لقاح مناسب. ما يمكن التحكُّم فيه بناءً على أصل الفيروس ونمط ظهوره، هو معرفة كيف نتفادى مستقبلاً تناول الحيوانات المتوحشة، لأن هذا الفيروس التاجي ظهر انطلاقاً من تناول لحوم هذه الحيوانات مثل الخفافيش (الخفاش هو الحيوان الثديي الوحيد الذي يستطيع الطيران) التي تُعشش في الكهوف والمغارات، حيث تكثر الجراثيم والفيروسات، بوسيط حيوان آخر هو أمُّ قرفة (pangolin) كان بمنزلة البيت الذي أقام فيه الفيروس قبل انتقاله إلى الإنسان وبداية العدوى من إنسان إلى آخر. يدفعنا هذا الأمر إلى طرح السؤال الفلسفي في جوهره، وهو علاقتنا بالحيوانات التي نتناولها والقواعد الصحية الخاصة بذلك، وهل هناك إمكانية أن يتحوَّل الجنس البشري من «آكل للحوم» إلى «آكل للأعشاب» فقط؟ وهل هناك أصلاً حاجة ملحَّة لأكل اللحوم الحيوانية؟. إذا كانت المشكلة قد ظهرت مع أكل لحوم الحيوانات، فإن الضرورة العاجلة تقضي بحظر هذا الأكل، وهذا ما قامت به الصين فور انتشار الفيروس المستجد. الأكل عبارة عن فن. ما معنى أن نأكل وكيف نأكل؟ وقد شاعت اليوم عبارة «قُل لي ماذا تأكل، أقل لك من أنت». أصبح الأكل اليوم في مقام «أنطولوجيا» بكاملها، أي نمط وجودنا في العالم. معظم الأمراض، بما في ذلك الأمراض المزمنة، هي نتيجة العلاقة المختلَّة بين البطن والأكل، بالإفراط في السكريات والدهنيات. والحق يُقال، الفلسفة هي سؤال الجرعة والميزان، والأكل هو من بين المجالات التي ينتفي فيها المكيال والتوازن، خصوصاً في كنف الحضارة المعاصرة القائمة على الوجبات السريعة والمشروبات الغازية والأنظمة الغذائية المعدَّلة وراثياً. قيادة هذا العالم = يتحدث البعض عن ضرورة أن يستقيل الجميع من مواقعهم الطليعية والمركزية اليوم: قادة سياسيون، فلاسفة، شعراء، أدباء، نقاد... إلخ، ويسلموا قيادة هذا العالم إلى علماء الطب والصحة والبكتريولوجيا والميكروبيولوجيا، فالكلمة لهم ومشروع إنقاذ العالم على أيديهم... ما تعليقك؟ - هذا ليس حلاً، لأن زمن الجائحة لا يتعدَّى بضعة أشهر أو سنة على أقصى تقدير (مع تطوُّر التكنولوجيا الطبية اليوم)، ومن ثمَّ لا يوجد أيُّ مسوّغ للقول بأن قيادة العالم لا بدَّ أن تكون من طرف تكنوقراطيين في الطب والصحة. الجائحة هي استثناء لا يدوم في الزمن وإن كان يُحدث تغييرات مهمَّة على جميع الأصعدة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ويعيد رسم خريطة جديدة للعالم. بعد الجائحة سيعود الساسة والفلاسفة والشعراء والأدباء والنُقاد للكلام ومواصلة أشغالهم. لكن ما يُمكن التفكير فيه جدّياً بعد الجائحة هو إعادة النظر في علاقتنا بالطبيعة وإعادة الاهتمام بالصحة والبيئة. عندما تحدثتُ عن النموذج الرابع كنتُ أقصد عودة الطبيعة إلى مخيال الثقافة البشرية بالوعي بحدود الكوكب الأرضي من حيث الموارد والطاقات. على البشرية أن تعي أن الانقراض الحيواني والنباتي الذي تسبَّبت فيه خلال عقود من استغلال الغابات والمحيطات قد يطالها أيضاً. ثم إن المخاطر المحدقة لا تأتي فحسب من العوالم الصغرى المسماة الفيروسات، بل كذلك من العوالم الكبرى كعصر جليدي جديد أو سقوط نيزك على الأرض. منحنا الخيال السينمائي أفلاماً رائعة حول النهايات المعلنة للبشرية في شكل سيناريوهات الكارثة مثل «أرماغيدون» (Armageddon)، وللسينما (الخيال إذاً) السبق في التحسيس بهذه النهايات الممكنة، بل إن المستحيل أضحى في عِداد ممكن الوقوع بدخول معايير جديدة في الفكر الاقتصادي والاستراتيجي المعاصر. معنى ذلك أن ما نعدُّه مستحيل الوقوع ونستهزئ بإمكانية وقوعه، قد يحصل ويُفاجئنا من حيث لا نحتسب. إعادة وضع الطبيعة في السؤال الفلسفي والمصيري هو السلوك الوحيد لتفادي النوم على اليقينيات المبتذلة، ولا يكون ذلك سوى بتضافر الجهود وبنقل المسألة من «الضمانة» إلى «التضامن».

مشاركة :