بعد وفاة نبى الإسلام محمد - صلى الله عليه وسلم- بل وحتى في حياته والوحى ينزل عليه؛ لم يجد الصحابة -رضى الله عنهم- حرجًا في خوض معترك الاجتهاد؛ فراحوا يجددون بعض الأحكام الشرعية، ويعطلون العمل بالبعض الآخر، حين تأكدوا أنها لم تعد ملائمةً لطبيعة عصرهم، ولم يمنعهم من هذا كونها مستنبطةً من نصوص قرآنية قطعية الثبوت والدلالة، وبدورهم لم يقابل المسلمون (حينذاك) ذلك التجديد بثورةٍ عارمةٍ من الرفض، أو حتى المسارعة بوصم هؤلاء المجددين بـ«الكفرة، أو الفساق، أو المبتدعين»؛ بل رضوا به وفرحوا؛ لأنهم وجدوا فيه تطبيقًا حقيقيًّا لجوهر الدين.جميع الصحابة (مُجدِّد، أو مُجدَّد له) كانوا يؤمنون بأن هذا الدين جاء ليكون محركًا للحياة بكل أبعادها، وأدركوا -عن معرفة راسخة وفهم عميق- أنه دين علم ومعرفة وأخلاق وحضارة؛ فضلًا على كونه عقيدةً وشريعةً؛ لذا كانت عقولهم تعى جيدًا أن الأصل في التشريع الإسلامى هو إسعاد الناس، ومواكبة ظروفهم المجتمعية ومقتضيات العصر الذى يعيشون فيه، وأن النصوص الدينية لم تكن يومًا (ولن تكون) مجرد حروفٍ جامدةٍ تحويها الصدور وتحفظها الأوراق، لتبقى كالأحجار يثقلُ بحملها كاهل كل المؤمنين بها.المسلمون منذ عهد الصحابة ومن جاء بعدهم من التابعين، آمنوا أن في الاجتهاد إثراءً للفكر الإسلامي، وأدركوا أنه سنةٌ إلهية وفريضة دينية وضرورةٌ حياتية؛ لذلك اجتهدوا وقادهم اجتهادهم إلى منع سهم «المؤلفة قلوبهم»، وتعطيل العمل بـ«حد السرقة»، وإلغاء أحكام الرق، وإسقاط الجزية عن أهل الكتاب، وغير ذلك من المسائل والقضايا التى كانت تشغل عصرهم، ولم يمنعهم من إعمال العقل المستند إلى إيمان راسخ لا يتزعزع؛ كون التشريعات التى عطلوا العمل بها مستنبطة من نصوص قرآنية قطعية الثبوت والدلالة، وكان دافعهم في هذا «مصلحة الناس، ومواكبة مقتضيات عصرهم، وإبقاءَ الدين صالحًا لكل زمان ومكان»، دون تفريط في نصوص مقدسةٍ اصطفاهم الله ليكونوا خير معين لنبيه -صلى الله عليه وسلم- في نشرها.ثم مضى عهد الصحابة والتابعين وتابعيهم، وتوالت السنوات تتبعها القرون، وجاء الدور على العلماء المعاصرين ليؤدوا أمانة الاجتهاد، ومن ثم الإدلاء بدلوهم في مجال تجديد الخطاب الديني، خاصة أن القضايا المعاصرة باتت تحاصر المجتمعات الإسلامية من كل حدب وصوب، وعجت رؤوس الشعوب بالعشرات (إن لم يكن المئات) من الأسئلة، والتى كان آخرها -كنموذج- الجدال الذى ما زال مستمرًّا حول مطالبة البعض بإعادة النظر في أحكام المواريث، وضرورة مساواة المرأة بالرجل في الحقوق المتعلقة بهذا الجانب، خاصة أن المطالبين بالمساواة يقولون: إن العلة التى سن من أجلها هذا التفاوت في القسمة قد انتهت، والضرورة الحياتية الراهنة تقتضى تحقيق مساواة حقيقية بين الجنسين، وغيرها من قضايا وأسئلة كثيرة شُغل بها الناس، ويحتاجون إلى من يجيبهم عنها؛ جوابًا تقتنع به العقول، وتطمئن إليه القلوب، أو كما يقول علماء المنطق «جوابًا جامعًا مانعًا».وفى كل قضية من القضايا المعاصرة، كان علماءُ الإسلام المعاصرون يهرعون إلى «تقليد القدماء»، فما أجازه السلف أقره الخلف، والعكس صحيح، وانتشرت بين المسلمين مقولاتٌ من قبيل «ليس في الإمكانِ أبدعُ ممَّا كانَ»، «ولم يَتركِ الأوَّلُ للآخِر شيئًا»؛ وهو ما يُشير إليه الراحل الدكتور محمود حمدى زقزوق، عضو هيئة كبار العلماء بالأزهر الشريف، بقوله: «التيار الأعظم من علماء المسلمين على مرِّ العصور وقف عقبة في طريق أى تجديد، ناهيك عن أى اجتهاد، ومن هنا تجمّد الفكر الديني، وتجمّد الاجتهاد». المقارنة بين إيمان المسلمين الأوائل بالاجتهاد قلبًا وقالبًا، وتطبيقهم له عمليًّا على أرض الواقع، وتعطيلهم العمل بأحكام مستنبطة من آيات قرآنية قطعية الثبوت والدلالة، ووقوف علماء الإسلام المعاصرين في اجتهادهم عند حدِّ «التقليد»، ورفضهم المطلق الاقتراب من أى تشريع مستنبط من نص قرآني، هو موضوع هذه الدراسة التى تحمل عنوان: «اجتهاد القدماء والمعاصرين.. فرضية التجديد وإشكالية التقليد»، وتتضمن ٧ محاور، نتناولها تباعًا في الحلقات التالية.
مشاركة :