في الوقت الذي تكافحُ فيه الحكوماتُ والمؤسساتُ العالمية لاحتواءِ أزمةِ الصحة العامة والتداعيات الاقتصادية لجائحة فيروس كورونا، الذي فرضَ تحدياتٍ صحية واجتماعية واقتصادية لم تستثن أيَّ بلدٍ؛ تمثلُ الحربُ الكلامية بين الولاياتِ المتحدة والصين تشتيتًا جيوسياسيا محبطًا، إذ أدى تفشي الجائحة إلى اشتعالِ التنافس بين البلدين، في حين وقعتْ منظمةُ الصحة العالمية في منتصفِ هذه المواجهة.وشهدت علاقةُ الرئيس الأمريكي، «دونالد ترامب» مع المنظمةِ العالمية، التي تأسست عام 1948 توتُّرًا متزايدًا، وصلَ إلى أنه أمرَ يوم 14 أبريل 2020 بتعليق تمويلها مدة تتراوح بين 60 إلى 90 يومًا بزعمِ سوء إدارتها لأزمة تفشي فيروس كورونا المستجد والتعتيم على تفشيه وتحيزها للصين، وهو ما يعدُّ تطورًا قد يؤدي إلى تقويضِ عملها، وهو الأمرُ الذي قُوبل بضجةٍ من مسؤولي الصحة العامة وحكوماتِ الدول الأخرى.ومن المتوقع، أن يكونَ تأثيرُ انسحاب الولايات المتحدة من تمويل المنظمة هائلًا من حيث الجهود الصحية العالمية الشاملة، وليس فقط تلك المتعلقة بجائحة كورونا. وتقدم واشنطن حاليًا أكثر من 500 مليون دولار لميزانية الوكالة الدولية كل عام، منها 400 مليون دولار مساهمة طوعية، بالإضافة إلى التزامات الأمم المتحدة البالغة 100 مليون دولار. ويعدُّ هذا التمويلُ هو أكبرُ استثمار مالي يقدم لها. وتعتمد البرامج الحالية للمنظمة بشأن قضايا مثل، القضاء على شلل الأطفال، على الموارد المالية التي تقدمها الولايات المتحدة. لذلك، فإن انسحابها من التزامات المنظمة سيكون له تأثيرٌ ضار على المبادرات الصحية العالمية وبالتالي تهديد حياة عدد لا يحصى من البشر.وفي واقع الأمر لم يكن قرار «ترامب» بتخفيض حجم إسهاماته التمويلية في المنظمة العالمية مفاجئًا. ففي سنواته الثلاث التي تولاها رئيسًا للولايات المتحدة، اكتسب خبرةً لا بأس بها في الانسحاب من العديد من الاتفاقات الدولية السابقة. ويأتي هذا القرارُ تأكيدًا على هذه السياسةِ التي اتبعها منذ تنصيبه، والتي على أثرها انسحب من عددٍ من الاتفاقات والمعاهدات الدولية؛ ومنها؛ اتفاقية «الشراكة عبر المحيط الهادئ»، و«اتفاق نيويورك حول الهجرة»، فضلا عن انسحابه في يونيو 2017 من «اتفاقية باريس لمكافحة التغير المناخي»، وإعلانه في أكتوبر 2017 انسحابه من «منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة»، (اليونسكو)،علن أع وانسحابه من «الاتفاق النووي» مايو 2018. وفي 19 يونيو، انسحب من مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة. كما يهدد بإلغاء «اتفاقية التجارة الحرة لأمريكا الشمالية» (نافتا)، والانسحاب من منظمة التجارة العالمية.وعليه، جاءت ردود الفعل على تهديدات الرئيس الأمريكي من قبل مسؤولي الصحة العامة، شبه حاسمة. ووصف «بيتر بيوت» من «كلية لندن للصحة والطب الاستوائي»، تصرفات «ترامب»، بأنها «خطيرة وقصيرة النظر وذات دوافع سياسية». وقال عنه «جافين يامي»، من «مركز تأثير السياسات في الصحة العالمية بجامعة ديوك»: «إنه قرار غريب من شأنه أن يضر بشدة بالصحة العامة العالمية؛ فهو يحاول صرف الانتباه عن أخطائه التي أدت إلى أسوأ رد فعل حكومي على كوفيد-19 على وجه الأرض». علاوة على ذلك، حث «باتريس هاريس»، رئيس «الجمعية الطبية الأمريكية»، الرئيس ترامب على إعادة النظر في القرار، واصفا سحب تمويل منظمة الصحة العالمية بأنه «خطوة خطيرة في الاتجاه الخاطئ». وقال «أسيس جحا»، أستاذ الصحة العامة بجامعة «هارفارد» بالولايات المتحدة: إن «فهم منظمة الصحة العالمية للبيانات شفاف للغاية وتعطي معلومات يومية وتدرك جيدا شدة المرض وخطورته وكيف يجب على المجتمع الدولي أن يستجيب له». واعتقد «أنتوني فاوتشي» مدير «المعهد الوطني الأمريكي للحساسية والأمراض المعدية»، بأنها «تقوم بعمل جيد تحت قيادة مديرها تيدروس». يأتي هذا في الوقت الذي وجه القادة السياسيون انتقادات حادة لهذا القرار. وكتب «جوزيب بوريل»، مسؤول السياسة الخارجية بالاتحاد الأوروبي، أنه «لا يوجد سبب يبرر هذه الخطوة في وقت تكون فيه جهودهم ضرورية أكثر من أي وقت مضى للمساعدة في احتواء وتخفيف جائحة فيروس كورونا». فيما قال الأمين العام للأمم المتحدة، «أنطونيو غوتيريس»، إنه «يجب دعم المنظمة العالمية لأن دعم عملها يعدُّ أمرًا أساسيًّا في الكفاح العالمي ضد وباء كورونا المستجد». في حين دافع وزير الخارجية الألماني، «هايكو ماس» عن دور الوكالة الدولية، قائلا: إنها «تضطلع بدور لا غنى عنه في مواجهة الجائحة، ويتعين علينا تعزيزه الآن ودعمه ثم تحسين وضعه، استعدادا للمستقبل». ووصف نظيره الأيرلندي، «سيمون كوفيني»، قرار «ترامب» بأنه «لا يمكن الدفاع عنه». في حين قال رئيس جنوب إفريقيا، «سيريل رامافوسا»: إنه «لا يمكن الاستهانة بالمهارات القيادية غير المعتادة التي أظهرتها المنظمة، وأن الضمير البشري سيخبرنا أن تلك الأفعال التي تنفصل عن الحقائق وتسيء وتشوه دورها كلها تشير إلى فقدان العدالة وهو ما يتعارض تماما مع الرأي العام للمجتمع الدولي». وفي المقابل، تلقت المنظمة الدولية تأكيدات بدعمها من العديد من قادة العالم؛ إذ أكدت رئيسة وزراء نيوزيلندا، «جاسيندا أرديرن»، التزام بلدها تجاه المنظمة، قائلة: «في مثل هذا الوقت عندما نحتاج إلى مشاركة المعلومات ونحتاج إلى الحصول على نصيحة يمكننا الاعتماد على المنظمة، والتي قامت بمهمتها، وسنواصل دعمها ومواصلة تقديم مساهماتنا». وعلق نائب وزير الخارجية الروسي، «سيرغي ريابكوف»، قائلا: «هذا مثال على نهج أناني للغاية من قبل السلطات الأمريكية، وهو أمر مقلق للغاية». ومن جانبها، أعلنت الصين أن وقف التمويل الأمريكي سيكون له «آثار سلبية» على التعاون الدولي لمحاربة الفيروس، وقال وزير خارجيتها، «فانج يي»: إن «الانسحاب الأمريكي سيضعف قدرات المنظمة، ويضر بالتعاون الدولي لمكافحة الوباء، ويؤثر على دول مختلفة بما في ذلك الولايات المتحدة نفسها محليا»، مضيفا أن «بكين ستواصل دورها في دعم المنظمة وقيادتها في هذه المعركة». ومع ذلك، لم تختر كل الحكومات أن تنتقد قرار الرئيس الأمريكي، فقد علقت المملكة المتحدة، ثالث أكبر مساهم منفرد في تمويل منظمة الصحة العالمية، بالقول إن «المملكة ليس لديها خُطط لوقف تمويل المنظمة العالمية، بما يقع على عاتقها من دور مهم تؤديه في قيادة الاستجابة الصحية العالمية ضد الجائحة». وكانت «مؤسسة غيتس»، ثاني أكبر مساهم في المنظمة، قد أعلنت زيادة تمويلها الخاص للبحث في لقاحات «كوفيد19» المحتملة بمبلغ 150 مليون دولار. وعلق مؤسس شركة مايكروسوفت، «بيل غيتس»، قائلا: «إن وقف تمويل المنظمة أثناء أزمة صحية عالمية أمر خطير كما يبدو». وتبدو زيادة الاستثمار من قبل المؤسسات الخاصة أمرا مثيرا للإعجاب، ولكن العجز الناتج عن انخفاض التمويل الأمريكي للمنظمة، لن يتم تغطيته بسهولة من قبل الدول والمؤسسات الأخرى.وتنصب انتقادات ترامب لمنظمة الصحة العالمية، أولا، عن أن المنظمة «يتمحور اهتمامها حول الصين بشكل غير عادل»؛ حيث تُرضي الحكومة الصينية وتخفق في كشف فشل بكين في احتواء انتشار الفيروس بشكل علمي. ثاني الانتقادات يتعلق بتأخر الاستجابة العالمية للفيروس التاجي. وبالتالي لم يتسن للولايات المتحدة الاستعداد بشكل مناسب. ووفقا للعديد من المحللين، فإن أول هذه الانتقادات لها ما يبررها، ولكن، الانتقاد الثاني هو تحرك مدفوع سياسيا لتحويل الأنظار عن إخفاقات واشنطن فيما يخص الصحة العامة خلال الأشهر القليلة الماضية؛ في ظل تكبد الولايات المتحدة الآن معظم الإصابات والوفيات في جميع أنحاء العالم، إذ بلغ عدد الوفيات بها جراء كوفيد-19 ما يزيد على 42.518. حالة في حين هناك أكثر من 792.938 إصابة مؤكدة.وفي الخطاب الذي أعلن خلاله الرئيس الأمريكي، تخفيض التمويل للمنظمة، قال «إنه كان على الولايات المتحدة واجب الإصرار على المُساءلة الكاملة». واستطرد «لو قامت منظمة الصحة العالمية بوظيفتها في إرسال خبراء طبيين إلى الصين لإجراء تقييم موضوعي للوضع على الأرض وإظهار افتقارها الشفافية، لكان من الممكن احتواء تفشي المرض في مهده مع القليل من الوفيات».وكانت المنظمة قد نالتها انتقادات شديدة لقبولها أرقام الصين الرسمية بشأن الضحايا، والتي يشتبه في قيامها بالتلاعب بها، كما يُنظر إلى رفضها الإضافي قبول المشورة من الحكومة التايوانية كدليل على رفضها للطعن بشكل كافٍ في الحكومة الصينية بشأن استجابة بكين لكوفيد19. ونتيجة لذلك، خضعت الوكالة الدولية لتدقيق كبير. ووصلت عريضة على الإنترنت تُطالب بإقالة رئيس المنظمة، «تيدروس أدهانوم غيبريسوس»، إلى ما يقرب من مليون توقيع حتى 16 أبريل. وتجدر الإشارة إلى أن الرئيس الأمريكي ليس وحده الذي انتقد طريقة تعامل ومعالجة منظمة الصحة العالمية للأزمة الحالية. فقد انتقد رئيس الوزراء الأسترالي، «سكوت موريسون»، إجراءاتها في التصدي لانتشار فيروس كورونا، وأبرزها دعمها لإعادة فتح الأسواق الصينية مجددا لبيع الحيوانات الحية في مدينة ووهان الصينية، ولا يخفى أن تلك الأسواق كانت لا تزال مصدر تفشي الفيروس.واعتبر العديد من المحللين أن انتقادات «ترامب» للمنظمة العالمية، مجرد وسيلة لصرف اللوم بعيدًا عنه في تعاطيه مع الأزمة، وفي ضوء أيضا أنه، كما تشير «آمبر فيليبس» في صحيفة «واشنطن بوست»، قد أشاد سابقًا بالحكومة الصينية لاستجابتها في التعامل مع الفيروس التاجي. وقال يوم 24 يناير 2020 إن «الصين تعمل بجد لاحتواء الفيروس التاجي، وأن واشنطن تقدر جهودها وشفافيتها في هذا الصدد». وأوضح «ستيفن موريسون» من «مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية»، «أنه غير مقتنع بإلقاء ترامب اللوم على المنظمة فيما يتعلق بتأخر الاستجابة لفيروس كورونا، مشيرًا إلى أن هذا يصرف الانتباه عن تفاقم الكارثة بعيدًا عنه، ويجعل الصينيين المتهمين الرئيسيين في زيادة انتشار الوباء».ولاشك أن حالة عدم الرضا حيال الدور الذي مارسته المنظمة إزاء التصدي للفيروس، يشكل جزءًا من مواجهة أوسع نطاقًا بين الولايات المتحدة والصين. وأصبح واضحًا أن المنظمة باتت مصدرًا آخرا للانتقادات اللفظية التي يستخدمها الرئيس الأمريكي في بياناته الصحفية للبيت الأبيض. ولعل هذا الأمر يعيد إلى الأذهان المبررات التي استخدامها ترامب في سياسة «حافة الهاوية الجيوسياسية» في الحرب التجارية الصينية الأمريكية خلال السنوات القليلة الماضية. على العموم، كانت ردود الفعل الدولية على هجوم الرئيس الأمريكي على منظمة الصحة العالمية، في معظمها، سلبية للغاية واُعتبرت أنها تضر بقدرة هذه المنظمة على مواجهة الوباء الحالي. وفي ظل تفاقم أزمة كورونا، فإن الآثار المترتبة على تخلي القوة الاقتصادية الرائدة عالميًّا (واشنطن) عن هذه المنظمة سوف يؤدي إلى ازدياد حالة التخوف سواء في المستقبل القريب والبعيد معًا في ضوء أن الغالبية العظمى من سكان العالم الذين يستفيدون من عملها سيخسرون أكثر من جراء انخفاض التمويل الذي تقدمه لها حكومة أغنى دولة في العالم.
مشاركة :