من المعلوم أن الأزمات تصنع الفرص، والفرص قد لا تأتي إلا مرة وحدة، ما يتطلب التضحية والكثير من الشجاعة والقدرة على اتخاذ القرار، بعيداً عن العواطف لتكون فائدتها أكبر وأشمل. وقطاعات الدولة بشقيها العام والخاص يجب أن تخرج من أزمة كورونا وما صاحبها من إرهاصات بالعديد من المبادرات، من أهمها على سبيل المثال إقامة مراكز أبحاث للخروج بمبادرات لتصنيع خامات الدواء لمجاراة التقدم العلمي العالمي وربطها بالجامعات ومصانع الأدوية ورعايتها ودعمها وتأهيلها لتتمكن مصانعنا من الاعتماد على نفسها وإنتاج الكثير من الأدوية محلياً بنسبة 100 %. ومصانعنا -ولله الحمد- أصبحت مميزة عالمياً لما تمتلكه من مقومات ودعم لا نظير له في مصانع العالم، وقد استطاعت في وقت وجيز تصنيع العديد من الأدوية وتصديرها خارجياً إلا أن المشكلة الآن في إيجاد المواد الخام لتصنيع الأدوية، وهذه المشكلة تعد عالمية، وكثير من الدول المصنعة للأدوية تعاني منها وواجهت هذه الأيام صعوبات كبيرة للحصول عليها، لأن هذه المواد الخام لا تصنع غالباً إلا في دولتين هما الهند والصين. ولكن مصانعنا تحتاج ربطها بمراكز الأبحاث المتخصصة لكي تكتمل بها دائرة التصنيع المحلي. مراكز أبحاث ولدينا في المملكة العديد من مراكز الأبحاث، من أهمها: مركز الملك فهد للبحوث الطبیة - جامعة الملك عبدالعزیز، مركز الأمير محمد بن فهد للبحوث والدراسات الطبية - جامعة الملك فيصل، مركز بحوث كلية العلوم الطبية التطبيقية - جامعة الملك سعود، مركز بحوث كلية الطب - جامعة القصيم، وحدة البحث العلمي بكلية العلوم الطبية التطبيقية - جامعة الملك عبدالعزيز، مركز الابتكار في الطب الشخصي، مركز التميز البحثي في علوم الجينوم الطبي· ومن مراكز الأبحاث بجامعة الملك عبدالله للعلوم والتقنية كاوست، التي تعد أكبر تجمع مراكز للأبحاث في الجامعة يضم علماء ومهندسين من كل التخصصات يعملون من أجل إيجاد الحلول للمشاكل المعقدة التي تواجه المملكة والعالم ككل. وأيضاً مستشفى الملك فيصل التخصصي ومركز الأبحاث، لديه مركز يضم مجموعة من أفضل العلماء والممارسين في هذه المجالات تساهم في رفع مستوى الخدمات الطبية في المملكة العربية السعودية. ولكن من المؤسف أن الاهتمام بمراكز الأبحاث في العالم العربي لاتزال دون المأمول، فالدراسات تؤكد أن نسبة إنفاق العالم العربي على البحوث لا تتجاوز 2 % وهو ما أدى إلى تدهور أنشطة البحوث على اختلاف تخصصاتها ومجالاتها خاصة بالنسبة لصناعات الأدواء والأمصال واللقاحات. استيراد واستهلاك وللأسف فإن المنطقة العربية وفقاً لموقع أموال تعد من أكبر الأسواق استهلاكاً في العالم فإمكانياتها لإنتاج الدواء لا تزال هزيلة بمقارنة بالكميات الضخمة التي تستوردها تلك الدول العربية. وتطمح شركات الأدوية الكبرى إلى الاستثمار في هذا القطاع في العالم العربي سواء من خلال تأسيس فروع لشركاتها الأم في المنطقة أو بالاستحواذ على شركات وطنية، ولكنها بالمقابل تطمع بحمايتها خصوصاً بشراء منتجاتها وعدم استيراد مشابهها من الخارج. ووفقاً لمصادر في منظمة الخليج للاستشارات الصناعية، فإن سوق الدواء السعودي يشكل 55 في المئة من حجم سوق الدول في دول الخليج مجتمعة، حيث استوردت السعودية ما يقارب 47.88 مليون كيلو جرام من الأدوية بقيمة إجمالية وصلت إلى أربعة مليارات دولار في عام 2015، فيما جرى تصدير 30.44 مليون كيلو جرام من الأدوية بقيمة إجمالية تجاوزت 325.25 مليون دولار. وأشارت المصادر إلى أن دول الخليج الست مجتمعة استوردت 1.19 مليار كيلو جرام بقيمة إجمالي وصلت قرابة 7.750 مليار دولار في 2015، كما صدرت دول الخليج 69.9 مليون كيلو جرام من الأدوية بقيمة تفوق 721.77 مليون دولار في العام نفسه. وبلغت قيمة سوق الأدوية في دول مجلس التعاون 10.1 مليار دولار وتأتي المملكة العربية السعودية على رأس دول المجلس بحجم سوق أدوية يبلغ 6.3 مليارات دولار وتحل دولة الإمارات ثانية ودولة الكويت ثالثة. وتصل قيمة الأدوية المستوردة في دول الخليج إلى 9.5 مليارات دولار سنوياً بنسبة 90 % من الاستهلاك المحلي حيث تشير الدراسات إلى أن واردات الدول العربية من الأدوية ستستمر خصوصاً من المنتجات المبتكرة وذات القيمة المضافة العالية. المواد الخام وحذر مستثمرون في قطاع الدواء من حدوث نقص في المواد الخام بسبب تفشى فيروس كورونا في الصين، خاصة أن مصانع الأدوية والشركات تعتمد بشكل كبير على استيراد المواد الخام من الصين والهند. ومع جهلنا بالأسباب ولماذا هاتين الدولتين بالتحديد، إلا أنه يجب على جهات التصنيع لدينا التوصل لحل هذه المعضلة، فبلادنا ليست بأقل من بلدان عربية كمصر والأردن، والتي تجاوزت هذه العقبة وبدأت بالفعل تصنيع المواد الخام لصناعة الأدوية، ما جعلها تستغني ولو عن جزء من حاجتها لتلك المواد الخام المستوردة. كما أنه من الضروري وضع تشريعات خاصة لمصانع الأدوية وخاماتها تحميها من غزو الأدوية المستوردة لأسواقنا ولتمكنها من السيطرة على مجريات السوق ووضع قوانين صارمة توقف تهديد صناعة الأدوية الوطنية وعدم منافسة المستوردة لها وإلزام المستشفيات بالقطاعين العام والخاص بعدم الاستيراد من الخارج مادام البديل يصنع في مصانعنا، فهي بفضل الله ثم دعم الدولة غير المحدود، استطاعت سد جزء من حاجتنا للأدوية التي كنا نستوردها من الخارج. والسوق السعودي بعد الانفتاح الاقتصادي الذي تعيشه المملكة الآن يعد مناخاً رحباً للاستثمار في مجال التصنيع الطبي. وبوارق الأمل تلوح بالأفق بإذن الله، فقد كشف مدير إدارة قطاع الأدوية في الهيئة العامة للاستثمار، عن اتفاقية تصنيع الأدوية البيولوجية في المملكة -وقعت قبل ستة أشهر- مؤكداً أنها تعد الأولى من نوعها في المملكة، وتعكس اهتمام المستثمرين وقادة الأعمال بالفرص الاستثمارية التي يتميز بها قطاع الرعاية الصحية في السوق السعودي، وتلك الاتفاقية التي وقعتها الهيئة العامة للاستثمار وشركة "جي إل رافا" الكورية القابضة، لتصنيع تلك الأدوية ستغطي مختلف مراحل تصنيع الأدوية البيولوجية بما في ذلك تصنيع المواد الأولية. وقد تضمنت الاتفاقية قيام الشركة ببناء منشأة لتصنيع 30 منتجاً من منتجات التقنية البيولوجية في المملكة، إضافة إلى تصنيع 5 منتجات ابتكارية أخرى خلال السنوات الخمس المقبلة. موضحاً أن الهيئة تعمل مع شركائها محليًّا وعالميًّا على توطين أكبر لخدمات الرعاية الصحية وصناعة الأدوية لمواكبة الطلب في السوق المحلي. مصانعنا مؤهلة وكثف وزير الصناعة والثروة المعدنية رئيس مجلس إدارة الهيئة السعودية للمدن الصناعية ومناطق التقنية «مدن»، بندر الخريف، من زياراته للمصانع الطبية التي تنتج حاليا المنتجات الطبية لمواجهة فيروس كورونا، مؤكداً العمل على تقديم كل الدعم لتلك المصانع. وبفضل الله ثم دعم الدولة غير المحدود أصبحت مصانعنا على استعداد لتعمل وفق طاقتها الإنتاجية القصوى على مدار (24 ساعة 7 أيام بالأسبوع، من أجل زيادة حجم المعروض من منتجاتها في السوق المحلية، ولكن الأهم هو التنوع في المنتجات بما يلبي حاجة السوق المحلي. ولكن تبقى المعضلة التي تواجه مصانعنا هي نقص المواد الخام وتم الشعور بها بالفعل عقب جائحة كورونا، عالمياً وليس فقط في بلادنا، ولو تم تصنيعها محلياً خصوصاً في هذه الفترة التي نمر بها، لكسرنا احتكار تصنيع تلك المواد في دول كالصين والهند، فلو تمكنا من تصنيع هذه المواد الخام فسوف يقل اعتمادنا على شرائها من الخارج. والسؤال الأهم هو هل نمتلك الآن مقومات إنشاء مصانع لإنتاج مواد خام الأدوية توفر تلك المواد محلياً لدعم الصناعة الوطنية، والدخول كمنافس عالمي وفك سيطرة الهند والصين على سوق المواد الطبية الخام؟! ويجب أن يجيب على هذا السؤال الجهات التصنيعية بالمملكة والتطلع لزيادة التصنيع المحلي من الأدوية، وتوفير المواد الخام لها محلياً، مع العمل على زيادة المخزون في القطاعات الصحية المختلفة بالقطاع العام والخاص لضمان توفر الدواء المحلي، وفك الاحتكار والسيطرة العالمية على تصنيع مواده والاستفادة من إرهاصات هذه الأزمة التي يجب أن تستغل لتفعيل المصانع الطبية واستقطاب الاستثمار الخارجي ومنع الاستيراد وقصر طلبات الأدوية ومشتقاتها على المصانع المحلية لتعزيز دورها الوطني وبما يضمن استمرارها ومساعدتها على تصدير الفائض وعدم تكبدها للخسائر في كساد منتجاتها لو لم يتم تشجيعها ودعمها ومساندتها. إنفاق العالم العربي على البحوث لا يتجاوز 2 % سوق الدواء السعودي يشكل 55 % من حجم سوق دول الخليج مجتمعة
مشاركة :