استطاعت الشبكة العنكبوتية وما يتصل بها من أجهزة حديثة مثل الجوال والأيباد وغيرها، ضرب الكتب والمكتبات في مقتل، وأصبحت الأُسر في جميع أنحاء العالم ضحية هذا الصراع فيما يتعلق بتثقيف أبنائها، وعجزت عن معرفة ما يقرؤوه أو يشاهدوه أو حسب مصطلح اليوم (يتابعوه)، بل إن كثيراً من الأسر رفعت الراية البيضاء استسلاماً لأمر بات هو الواقع الذي لا بد من مواجهته بكل الطرق الممكنة وإلا أصبح الحفاظ على هوية الوطن وشخصيته درباً من الخيال. وأعود بالذاكرة إلى عام 1992 ميلادي حين جلست في صبيحة يوم السبت الموافق 12 سبتمبر أمام مكتب مدير المرحلة الثانوية في مدارس الرياض الأستاذ عبدالعزيز الدويسي -حفظه الله- مقدماً نفسي بأني مدرس مادة المكتبة والبحث، والتي أُقرت في ذاك العام، واعتذر الرجل مني بأن المقرر الدراسي لم يصل للمدرسة حتى هذا اليوم وكان الباقي على انطلاق العام الدراسي أسبوع واحد فقط واستأذنني في الذهاب إلى مدير المرحلة الابتدائية الأستاذ فهد الشبر -حفظه الله- ومن هنا بدأت الحكاية التي تتعلق بمقال اليوم فقد استقبلني الرجل استقبال الفاتحين وعززني في علمي ومجالي ووعدني بالتعاون لنجاح حصة المكتبة التي قررتها مدارس الرياض على طلاب المرحلة الابتدائية هذا العام، وكان مدير المدارس الشيخ الأستاذ عبدالرحمن العجاجي ومدير البنين الأستاذ فهد البراك -حفظهم الله- من رجالات التعليم المشهود لهم بالبنان، خاصة أنهم خلفوا إدارة قوية برئاسة الأستاذ فهد الشويعر والأستاذ موسى السليم. ومع هذا الاستقبال الرائع بدأت نفسي تهدأ من الصراع الذي دار بداخلها متسائلاً: ماذا أن بفاعل مع هؤلاء الأطفال؟ خاصة أني لم يسبق لي التعامل مع هذه المرحلة السنية. كانت المرحلة الابتدائية مكونة من 25 فصل الثالث والرابع والخامس والسادس، وكان نصاب المعلم لا يتجاوز 24 حصة فرجاني معلم الحصة الزائدة وطلب مني أن أضيفها لجدولي فتقبلتها بصدر رحب فأنا على مجهول قادم لأربع وعشرين حصة فما يضير الشاة سلخها بعد ذبحها. باقي أقل من أسبوع وينطلق العام الدراسي فماذا أنا بفاعل؟ قضيت الأيام التالية كلها أفكر وأكتب وأمزق الأوراق فهؤلاء الأطفال ليسوا بدارسي علم المكتبات والمعلومات وما يشمله من تصنيف وتكشيف ووصف ببليوجرافي و... من مواد هذا العلم. وتغلب الجانب العلمي علي فوضعت مقرراً لمدة 15 أسبوعاً شمل كل تعريف للمكتبات وخدماتها وأسس التعامل معها. زرت مكتبة المدرسة -قبل أن يصبح مسماها مركز مصادر التعلم- وتعرفت على أمينها الدكتور محمد منير الجنباز وهو من العلماء الأفاضل في اللغة والشعر والتاريخ والجغرافيا، وأخذني في جولة في مكتبة أحسبها في ذاك الوقت أكبر مكتبة مدرسية ليس في السعودية فقط ولكن في الشرق الوسط بل وفي بعض الدول الغربية أيضاً، فقد كانت المكتبة كبيرة حجماً وقيمة بما احتوته من مصادر معلومات لأمهات الكتب وأندرها وموسوعات وكتب التراجم وغيرها وكذلك مجموعة مميزة من قصص الأطفال. في صبيحة يوم السبت الموافق 19 سبتمبر عام 1992 بدأت أول حصة مدرسية لي، فشمرت ساعدي وأحضرت دفتر التحضير وجهزت نفسي بكل أدوات المعلم الممكنة ودخلت الفصل ووجدت بداخله نخبة من أبناء قادة الوطن وهم قادة الوطن الآن. عرفتهم بنفسي وماذا سيدرسون ومن خلال مطالعة الوجوه أحسست أن هناك خللاً ما فيما سأقدمه. اصطحبت الطلاب إلى المكتبة وبدأت في الشرح والتعريف مسترجعاً كل ما قدمه لي أساتذتي الأفاضل في الجامعة، وبعد عشر دقائق أو أكثر كنت أنا في وادٍ وطلابي في وادٍ ثانٍ، فما أقوله هو عجب العجاب وهم يرون أن المكتبة هي القرطاسيات ليس أكثر، فنظرت حولي لأجد مجموعة من القصص ضمن سلسلة المجموعة الخضراء، فأخذت واحدة وبدأت أسرد ما فيها فعاد الهدوء يغلف المكان، وبدأ الطلاب ينزلقون من مقاعدهم إلى أرض الغرفة مستأنسين بما أقول فزادني ذلك حماساً. وبدأت في التأقلم على آلية تدريسهم، وبعد أن كنت أكتفي بالقراءة بدأت أعرض لهم عبر الفيديو أفلام لسندباد وياسمينة وتان تان وغيرها، ومن خلال العرض نستنتج المعلومات المهمة والمفيدة. ثم بدأت أستعين بمجموعات قصصية أخرى مثل: هذه بلادنا وأعرض فيها لمدن وقرى المملكة، وأصبح الطلاب يشاركوني القراءة. وبعد فترة تلقيت كلمات شكر وتقدير من مدير المرحلة الذي عبّر لي عن سعادته وسعادة أولياء الأمور بما يقدم لأبنائهم داخل الحصة فالطلاب يسردون كل ما يحدث داخلها لأمهاتهم بالتفصيل وكل المناقشات التي تدور مما زادني حماساً للدخول في موضوعات أخرى مثل فن الكتابة والإلقاء وأبجديات البحث والتلخيص و.... لم تكن حصة المكتبة تمثل عبئاً على آنذاك؛ وإنما كانت حصة لنقل المعرفة الموثوقة لطلابي وتدريبهم على كثير من الآداب والعادات الحسنة، فمن أراد الحديث يرفع يده ومن أراد الخروج يرفع يده، ومن جاع أو عطش فليأكل أو يشرب في سلام، وعند الخروج لا طالب يغادر إلا وقد أعاد مقعده في محله بل وجمع ما خلفته الحصة من مخلفات ووضعها في السلة المخصصة لذلك. إن حصة المكتبة هي طريقنا -بإذن الله- لإعادة أبنائنا إلى حضن الوطن إلى تبيان الغث من السمين إلى الاستفادة من الماء وترك الزبد، أعيدوا حصة المكتبة وخصصوا لها من خريجنا من يتقن فن التعامل مع الصغار ولديه شغف بالقراء والكتابة والمعرفة. إنها شعاع ضوء في عتمة اللا تثقيف.
مشاركة :