لا أحد يشك أن ولي الأمر حين أقر إنشاء مجلس الشورى. ومجالس المناطق. والمجالس البلدية. وهيئة الرقابة والتحقيق. وهيئة مكافحة الفساد، وشد عضد ذلك بمستشاري الديوان الملكي، و بهيئات وطنية، ولجان أهلية، ومؤسسات مساندة. نعرف منها، ونجهل، فإنما يريد تحقيق الشورى الإسلامية، ومبدأ [مِنْ أَيْنَ لك هَذَا؟]. وهي مفردات مؤسسية مدنية في الفكر السياسي الإسلامي، تكون بإزاء المجالس المدنية المتعددة الأشكال، والمسميات عند الحضارة المنافسة. كـ[مجلس الكونجرس، والشيوخ] و[النواب] و[اللوردات] وغيرها. وهي مجالس تمارس صلاحياتها، ومهماتها وفق نظم، وآليات، ويصل ذووها إلى سدة المسؤولية بطرق متعددة. تكون بالانتخاب، أو بالترشيح، أو بالاختيار، أو بالتعيين، أو بما شئت من طرق الوصول إلى ذروة المسؤوليات النيابية. وتلك آليات لا اعتراض عليها، ولا مفاضلة بينها، إذا أدت إلى المطلوب، وحققت تطلعات الأمة في الأمن، والعدل، والحرية، والمساواة، وحفظ المال العام، وتداول السلطة، وتكافؤ الفرص. وحين يُقْدِم ولي الأمر على مثل هذه القرارات النيابية، ويضع لها أنظمة، ولوائح، وطرائق لوصول الكفاءات الوطنية إلى قُبَّة المسؤولية: اختياراً، أو تعييناً، أو ترشيحاً، أو انتخاباً فإنه لا يريد أن تكون في معزل عن هموم المواطن، وتطلعاته، والتواصل معه، والاستزادة من تجاربه، وخبراته. كما لايريد منها أن تكون لاسقاط واجب، أومسايرة فارغة لأوضاع العالم النيابية. فولي الأمر قبل ذلك كله، وبعد ذلك كله، مواطن، انشقت عنه صحراء الوطن، وتكونت خلاياه من ترابه، وتوطدت صلاته بكافة شرائح المواطنين، وتكونت عواطفه، وتشكلت أنساقه، ومال هواه مع الوطن. يشقى بشقائه، ويسعد بسعادته، ويموت على ثراه. فهو منه، وإليه، لم يكن غريبا، ولا طارئا. وكيف لا تميل معه عواطف المواطنين، والأسرة الحاكمة جزء من تاريخ الوطن، في جزره، ومده، وعسره، ويسره. الأهم من ذلك كله أن الإسلام بفكره السياسي، والقانوني، والدستوري ينافس حضارات إنسانية. شرقية، أو غربية، لها طرائقها، وأنظمتها، ونجاحاتها الدستورية. وحين تخفق مؤسسات الإسلام، بفعل المسلمين، يُحْسَب ذلك على الإسلام، ويجد المستغربون بهذه الإخفاقات سلاحاً نافذاً، لتوهين المشروع الإسلامي، الذي تتبناه دول إسلامية على مستويات متفاوته، تأتي المملكة في مقدمتها. بل ربما تكون المملكة الدولة الأقوى في تمثل الفكر السياسي، والقضائي الإسلاميين. وهي إلى جانب حرصها على نجاح مشروعها السياسي، والنيابي، والقضائي، تقدم نفسها كمنافس، وسط تجارب دستورية، ونيابية، تهافتت عليها دول إسلامية عربية، وغير عربية. وهي تجارب ربما تسد الخلال، لأنها تستجيب لكثير من المطالب الإنسانية، ولكنها مأخوذة بنقيصتين:- - نظرتها المادية الخالصة. - وكونها لا ترجو من الله مايرجوه المسلم. فالأمة المسلمة حين تُحَكِّم الكتاب، والسنة. وتحقق المطالب الروحية، والمادية للإنسان. وتمتثل أمرالله، إنما تفعل ذلك لتنال ثوابه. كما قال تعالى {وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ}. وكما في قوله صلى الله عليه وسلم [عَجَبٌ أمْر المؤمن، وكل أَمْره عجب..]. والدول التي اختارت [العلمانية] وحَكَّمت القوانين الوضعية، متفاوتة بين الاضطرار، والاختيار. فلربما تكون الأكثرية غير المسلمة هي الغالبة.ومن ثم لامناص من خيار العلمنة، لدرء الصدام، المضر بكل الأطراف. وهذا ما حبذه مفكرون هنود إسلاميون. لأن العلمانية في هذه الحالة خيار اضطرار، لتفادي النزاع الدموي. وعلى مفكري الإسلام ألا يُحَرِّضوا الأقلية المسلمة على حمل الأكثرية على ما تريد، إذا ما كفلت حرية العبادة، والدعوة بالحكمة، والموعظة الحسنة بين الأطراف، وتم الجدال بالتي هي أحسن. ما أود الإشارة إليه، في هذا السياق، الإخفاق النسبي عند كثير من الدول الإسلامية، المتمثلة لهذه المبادئ. إذ الواجب أن تكون تلك المجالس النيابية حاضرة الذهن الجمعي. وأن يجد فيها المواطن ملاذاً، لحسم الشائعات المقلقة له. فهذه المجالس بتلك السمات، لم تكن موطن استمالة، ولا ذات علاقة بالمواطن. لأنه لا يهتم بها، ولا يعول عليها، ولا يجد في استعدائها على التقصير مناصراً شافياً. وفوق هذا، فهذه المجالس، وأفرادها لا يقيمون علاقات مباشرة مع شرائح المجتمع، ومكوناته، ولا يتواصلون معهم، ولا يستطلعون آراءهم، ولا يسبرون أغوار اهتماماتهم، ولا يُحِسُّون أنهم لسان حال المواطن. وقد لا يملك البعض منهم لغة التفاوض، ولا محققات الحوار. ومثل هذه المجالس لا يقيم أودها إلا تناجي البر والتقوى، والحوار، والجدل. ولاكتشاف الضعف، والتقصير، سأضرب مثلاً مهماً : فأعضاء هيئة التدريس في الجامعات، يمثلون النخب في الرأي العام، هؤلاء لا يمدون بسبب إلى هذه المؤسسات، ولا يقيمون علاقات مع أعضائها، تمكن أعضاء هذه المجالس من الوصول إلى نبض الشارع العام. لقد استطلعت رأي من حولي عما إذا كان هناك تواصل مثري، فكانت الإجابات سلبية. إن مهمة التواصل مع شرائح المجتمع، تعود بالنفع العميم للوطن، والمواطن. فالعضو في المجالس النيابية، يجب ان يقف على هموم المواطنين. وأن يتعرف على تطلعاتهم. وأن يستفيد من آرائهم، وتجاربهم، وخبراتهم. وأن يجسر بمخالطته الفجوات المقطوعة، لأنه في النهاية ينوب عن المواطن، ويمثله. هذه المجالس من المواطن، وإليه. ولا يمكن أن تؤدي مهماتها على الوجه الأكمل، إلا إذا جُسِّرت الفجوات، وقُوِّيت الصلات، وأصبح العضو على صلة وثيقة بمختلف شرائح المجتمع. وهو مالم يكن، ولست على يقين من لوائح تلك المجالس، هل تحبذ التواصل مع المواطنين أم لا ؟. فالمجالس في عزلة، وأداؤها رتيب [روتيني] بل هو إلى السكونية أقرب. نحن لا نريد التهريج، ولا التنازع، ولا استخدام الأيدي، والألسن في كسب المواقف. وهو بعض مانراه، ونسمعه في نشرات الأخبار عن بعض المجالس النيابية العربية. نحن نحترم الرزانة التي يتمتع بها أعضاء مجالسنا، ونحترم الإدارة الحكيمة التي تدار فيها المناقشات. ولكننا في الوقت نفسه نريد حراكاً، وتواصلاً. حتى يشعر المواطن بأن وراء همومه من يتابعها، ويُفَعِّلها. نريد من أعضاء المجالس اختراق تجمعات المواطنين في الجامعات، والمدارس، والأندية، والمؤسسات الثقافية، والصالونات الأدبية، وحتى الاستراحات التي تشكل ظاهرة ليست على مايرام، تمهيداً لاستجلاء وجهات النظر، والوقوف على الرغبات، والتطلعات، وشد انتباه الجمهور، لما يدور داخل قباب المجالس. إن هناك حلقةً مفقودةً، حجبت الاهتمام، وضاءلت الإحترام، ربما يكون عدم التواصل من أهم المعوقات. نريد من أعضاء المجالس الرصد الدقيق لنبض الشارع العام، والتحسس عن همومه، والاقتراب من كافة الشرائح، والأطياف، وخلق مناخات تُشْعِر المواطن بحضور العضو، وتفاعله ومتابعته. لا نريد للمجالس النيابية أن تكون مجرد مكاتب، ولا نريد للأعضاء أن يكونوا مجرد موظفين. وحتى المستشارون بـ[الديوان الملكي] وهم صفوة الصفوة، نريد منهم تحسس الهموم، والتعرف على المطالب، ولا يكون ذلك إلا بالخلطة. هذه الرغبات النيابية، تتفق مع ما يريده ولي الأمر، و ما يمثل تطلعه، و طموحه. ولي الأمر يريد ملء الفراغات التي يستبق إليها شرار الخلق، لِيُفِيضوا عليها من حشفهم، وسوء كيلهم. إن هناك دولًا لا تحقق لشعوبها بعض ماتحققه دولتنا، ومع ذلك تعيش مجالسها حضوراً مخادعاً، قد يتمنى بعضنا شيئاً من شكلياتها السرابية. نحن لا نريد الدعاية الفارغة، ولا التشبع الفارغ، ولا نريد ثوب الزور، نريد أن تكون مؤسساتنا بمستوى فكر إسلامنا السياسي، وبمستوى طموحات قادتنا. نحن متصالحون مع دولتنا، وواثقون بولاة أمرنا، ولحمتنا لا تُصدعها الاستدراجات الشيطانيه. ولكننا جزء من هذا العالم، ومطالبون بالتماثل، وترتيب أمورنا على ضوء المستجدات النيابية، والدستورية، والقضائية، وسائر المكونات المدنية. ومرونة الإسلام تكفل لنا حرية التحرك، وتمنحنا مساحات واسعة لاستيعاب المستجد، والأخذ بأحسنه، ورسول الله صلى الله عليه وسلم قدوتنا، لقد اتخذ من الفرس، والروم، والحبشة: [الخاتم] و[الخندق] و[المنبر] والحق ضالة المؤمن. ونحن إذ نكون كذلك، فإن من واجب مجالسنا أن تكون بمستوى أوضاعنا الآمنة، المطمئنة الفاعلة. وضعف التواصل مع شرائح المجتمع، ينعكس أثره على فاعلية العضو داخل القاعة. إذ كم يلتقي الأعضاء بمسؤول تشريعي، أو تنفيذي للمساءلة، ثم لا يستطيع أحد أن يثنيه، لا قوة فيه، ولكن ضعفاً فيمن يلاقيه. ولو أن الأعضاء يحسبون لاستطلاع الرأي العام حسابه، لكانوا الأقدر على إفحام المسؤول، ومباغتته بما لم يكن في الحسبان، وخلق هيبة مخيفة لكافة المجالس النيابية.
مشاركة :