تظل الآداب الشعبية عموماً والشعر الشعبي خصوصاً من المصادر المهمة التي يجب أن لا يغفل عنها المؤرخ والباحث لأنها تكتنز لمحات غنية عن الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية قل أن توجد في غيرها من المصادر الأخرى وهذا حديث نكرره بشكل دائم، ونظراً لاعتماد الآداب الشعبية في تداولها على الرواية الشفوية فإن الاهتمام بتدوينها كان محدوداً جداً، ولذا فليس غريباً أن نلاحظ ندرة المصادر المطبوعة للشعر الشعبي في النصف الأول من القرن الرابع عشر الهجري، وكان الالتفات إلى الصحافة المطبوعة في تلك الفترة والتنقيب فيها طريقة علمية صحيحة للوصول إلى العديد من القصائد الشعبية الغائبة التي حفظتها صفحات الجرائد القديمة لتبقى شاهداً على الأحداث التاريخية والحياة العامة وقت نشرها، في هذا المساق الجميل نشرت دار جداول في بيروت كتابا حديثا عنوانه (الشعر العامي في جريدة القبلة) من جمع وإعداد عبدالله بن علي الرقيب الثبيتي حيث لاحظ الباحث أثناء بحثه وتنقيبه في جريدة القبلة التي صدرت في مكة المكرمة خلال الفترة (1334 1343ه) قصائد عديدة من الشعر العامي ماثلة أمام عينيه على صدر صفحاتها وخاصة لشعراء الحجاز فعمل على جمعها ولكنه بعد ذلك اكتشف أن الأستاذ إبراهيم الخالدي الباحث الكويتي المعروف باهتمامه بالشعر النبطي يعمل على الموضوع نفسه وبعد اتصالات وتنسيق بينهما قام الخالدي بإرسال عمله إلى الثبيتي فكفاه مؤونة نسخ النصوص وصفها على الحاسب وذلك إيثار علمي نادر يستحق ولا شك الثناء والتقدير. ويشير الثبيتي إلى أن جريدة القبلة اهتمت بالشعر العامي في فترتين سياسيتين: الأولى: أثناء الثورة العربية حيث نشر خلال الفترة (13341337ه) عدد من الموضوعات المتعلقة بالشعر العامي وصلت إلى 28 موضوعاً ويرى الباحث أنها تهدف من خلال ذلك إلى استمالة القبائل وبث روح الحماسة في أفرادها. أما الفترة الثانية فكانت في سنة 1342ه حيث نشر خلالها 3 موضوعات تتعلق بإعلان الحسين بن علي نفسه خليفة للمسلمين في حين يرى الباحث أن الجريدة أرادت بنشر هذه الموضوعات الثلاثة إظهار تأييد أهل الحجاز للحسين. وأما خارج هاتين الفترتين فلم تنشر القبلة سوى موضوع واحد. وقد بلغ عدد الشعراء الذين نشرت القبلة قصائدهم العامية 18 شاعراً 13 شاعراً من البادية و3 شعراء من اليمن وشاعران مجهولان لم يصرح عنهما، وجاءت جميع القصائد المنشورة بين غرضين هما المدح والحماسة، في حين أشار الباحث إلى أن القائمين على الجريدة لم يكونوا على درجة كبيرة من المعرفة بالشعر العامي ولذا ظهر عدم استقامة الوزن في العديد من الأبيات إضافة إلى عدم الكتابة الصحيحة للألفاظ حسب لهجة الشعراء. وقد وفق الباحث في فكرته وموضوعه وبذل جهداً مشكوراً في تحرير النصوص الشعرية وتوثيقها وإقامة وزن الأبيات غير المستقيمة وقام بالتعريف بالشعراء والأعلام كما كتب تمهيداً عرّف به بجريدة القبلة وتحدّث فيه عن تعاملها مع الشعر العامي موضوعياً وتاريخياً. ويجد القارئ في ثنايا هذا الكتاب نصوصاً نادرة تعتبر من أوائل القصائد المنشورة في الصحف لشعراء الجزيرة العربية ومنهم بعض الشعراء المشاهير مثل مخلد القثامي وعطا الله بن خزيم وجمهور العدواني وقصائد أخرى لعبدالله الطويرقي وعليان العوفي وعايد الزيادي ومحمد بن ماضي الدهاسي ومحسن سعود العدواني إضافة إلى عدد من القصائد لشاعر حضرمي اسمه سعيد بن سالم باكلكا وشاعر يماني اسمه محمد بن يحيى الشائف وقصيدة لسلطان لحج أحمد بن فضل بن علي ويحتوي الكتاب على مزيد من المقطوعات وأهازيج القبائل وبعض المساجلات التي تؤكد أهمية الشعر العامي ودلالاته التاريخية ودوره الاجتماعي في كل زمان ومكان، ولعل عمل الثبيتي يلفت نظر الباحثين إلى الأشعار القديمة المنشورة في صحف أخرى.
مشاركة :