ابن الفارض.. نصوص مكتوبة بمداد عشق الله

  • 5/4/2020
  • 00:00
  • 3
  • 0
  • 0
news-picture

الشارقة:علاء الدين محمود تعانق كلمات أهل التصوف، من شعر ونثر، الأذن، فيرق القلب، ويتهيأ للمحبة، والتلقي، والسير في طريق السالكين العاشقين، ولئن كانت تلك الأشعار من أجل النجوى، ونيل رضا الله سبحانه وتعالى؛ فهي في الوقت نفسه تؤدي بآخرين إلى أن يسيروا في طريق طويل، وسفر دائم، يبتغون فيه القبول، وينالون فيوضات المحبة، وأنوار المعارف في روحانيات بديعة، فالحب الخالص هو طريقهم، والأشعار التي تفيض رقة وعذوبة زادهم في رحلتهم، حتى أنهم لن يروا بعد محبة الله شيئاً آخر.وكان شعراء الصوفية يقللون من شأن أي شعر ونظم في غير محبة الله، سبحانه وتعالى، ولهم في ذلك قصائد كثيرة لعل من أجملها تلك الأبيات التي يلوم فيها «ابن الخيمي»، أهل الغرام الدنيوي، والتي يقول في بعضها: أيا من سَلوا عنّا ومالوا إلى الغدرِ                           وما لزموا أخلاق أهل الهوى العُذري وبعد حلاوات التواصلِ والهوى                        جنوا مُرّ طعمِ الهجرِ من علقمِ الصبرِ وإن كُنْتُم في الجهر عنّا صدَدْتُم                          ففي سِرّنا عنكم نصدّ وفي الجهر. رحلة التأمل ولعل الحديث عن شعر التصوف لا تكتمل أركانه، ولا يبلغ منتهاه، وبنيانه، إلا بالتعريج على نبع سلطان العاشقين، أبو حفص، شرف الدين عمر بن علي بن مرشد الحموي، الشهير بابن الفارض، «576ه 632 ه»، وهو العالم في السنّة والإمام في المذهب الصوفي، ويعتبر من أكثر شعراء التصوف إنتاجاً للشعر، خاصة في المناجاة، وهي القصائد التي يتوجه فيها بالشكوى والتضرع إلى الله سبحانه وتعالى، ولعل ما جعل أكثر شعر ابن الفارض في النجوى، هو تلك العزلة المجيدة التي عاشها، فقد قضى قرابة 15 عاماً بعيداً عن أعين الناس، متفرغاً للعبادة، والابتهال، زاهداً في ما عند الناس، يرجو وجه ربه، سبحانه وتعالى، فكان الشعر هو وسيلته في التقرب، ونيل الرضا، والقبول، وهي الأشعار التي كانت تنسال رقيقة في نظمها، رفيعة في تعبيراتها، عميقة في معانيها، فهي نتاج لحظات خالصة لله سبحانه وتعالى، انتجتها تلك الوحدة التي انفرد فيها بنفسه من أجل أن يوطنها على المحبة، فكانت العزلة هي النبع الفريد الذي تدفق منه نهر الأشعار الصافي، حيث صنع ابن الفارض لنفسه في مساحة للتأمل في أحوال النفس، والتدبر في الوجود والمخلوقات والأسرار، لذلك جاءت قصائدة محملة بقيم الحب، والزهد، والتسليم لله سبحانه وتعالى، في كل شيء، فالرحلة التأملية التي خاضها قد وفرت له تجربة عظيمة انعكست على أشعاره، فكان أن احتل الموقع الأكثر تميزاً بين شعراء الصوفية، فهو أغزرهم نظماً، وأجودهم سبكاً، لذلك قال عنه جبران خليل جبران: «هو كاهن في هيكل الفكر المطلق، أمير في دولة الخيال الواسع، قائد في جيش المتصوفة العظيم». تأثير التجربة ولعل قصيدة ابن الفارض «أنتم فروضي ونفلي»، قد اكتسبت صيتاً خاصاً، ومحبة كبيرة من أهل الطريق والتصوف، لكونها ابنة تلك التجربة «العزلة»، وتوضح القصيدة في أبياتها معاني الخضوع والانقياد لله سبحانه وتعالى، وتكشف عن أن الشاعر قد اختار عزلته تلك لكونه قد نذر نفسه وحياته لمحبة الله تعالى، لا يحيد عن ذلك المبدأ الذي اختاره، ولا تغريه الدنيا بكل ملذاتها، وشهواتها، وذلك هو شأن المحب، أو كما يقول جلال الدين الرومي: «حقيقة المحبة أن تهب كُلك لمن أحببت فلا يبقى لك منك شئ»، وذلك كان شأن ابن الفارض، فهو قد اختار طريق المحبة الخالصة، فلا سبيل للتراجع عن ذلك الأمر، فكانت تلك العزلة المجيدة هي التي جمّلت أشعاره بدرر البيان، وأسرار المعاني، ولعل كل ذلك نحسه، ونشعره في قصيدة «أنتم فروضي ونفلي»، هذا النص المسكون بالحب والولاء والتسليم الكامل لله سبحانه وتعالى، وذلك الأمر يبدو جلياً وواضحاً في أبيات استهلال القصيدة التي تقول: أنْتُم فُرُوضي ونَفلي                 أنْتُم حَديثي وشُغْلي يا قِبْلَتِي في صلاتي                إذا وَقَفْتُ أُصلّي جَمالُكُمْ نَصْبُ عَيني                  إليهِ وجّهْتُ كُلّي وسِرّكُمْ في ضَميري                 والقلبُ طُورُ التّجَلّي. حملت القصيدة تلك الفيوض الخالصة من الجمال، تهدي المعارف للسائرين في طريق الحقيقة في كيف ينذر العابد السالك روحه لمن يحب، فتلك الأبيات تشكل صرحاً من القيم النبيلة الرفيعة، ويتواصل المدد الجمالي الروحي في بقية أبيات القصيدة، وفيها يشرح الشاعر كيفية اختياره لطريق العزلة، وما يرجو فيها من فائدة، ويقول: آنسْتُ في الحَيّ ناراً                  لَيْلاً فَبَشّرْتُ أهلي قُلْتُ امْكُثُوا فَلَعَلّي                أجِدْ هُدايَ لَعَلّي. ولئن كان مستهل القصيدة ومتنها نبعاً من ينابيع الجمال، فإن الختام يحمل الحكمة وإظهار أحوال الشاعر الذي يعيش في ولَه، ووجد، وشوق عظيم للقاء ربه، فذلك هو المبتغى الذي يسعى إليه العاشق الصوفي المعذب، وربما لا يرتاح ولا تهدأ نفسه إلا بلقاء المحب، وذلك مقام رفيع عبر عنه ابن الفارض في خواتيم القصيدة بقوله: فالموتُ فيهِ حياتي               وفي حَياتيَ قَتلي أنا الفقيرُ المُعَنّى                رِقُوا لِحَالي وذُلّي. قصيدة رقيقة مسكونة بالجماليات العظيمة، والمشهديات البارعة البديعة، والصور التي تجعل اللغة في حالة من السيولة، وذلك شأن في الشعر بلغه ابن الفارض في عزلته، في وادٍ قريب من مكة التي أحبها، بعيداً عن الناس.

مشاركة :