محمد النجار يكتب: الأسْرَار الكبرى في آيات الصيام

  • 5/10/2020
  • 00:00
  • 2
  • 0
  • 0
news-picture

آيات الصيام دليل باق على الإعجاز: يقول الله تعالى في كتابه الكريم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} سورة البقرة، آية:183، إن أهم ما يلفت الانتباه في آيات القرآن الكريم المتعلقة بالصيام هو ذلك التأثير الإيجابي في النفوس، حيث تعتري الإنسان حين سماعه لهذه الآيات أو تلاوتها حالةٌ من الخشوع والطمأنينة والانشراح، حالة لا ينكرها إلا بليد المشاعر، أو حاقد جائر، وليس هذا التأثير خاصًا بآيات الصيام وحدها، إنما هي روح مفعمة في عموم كتاب الله تعالى، تأسر القلوب، وتؤثر في الإرادات، الأمر الذي فطن إليه المشركون عند سماعهم للقرآن، لكن منعهم الصلف والكبر من الاستجابة لداعي الفطرة بالإقبال على كلام الله، فوصفوا القرآن بأنه سحر وقالوا عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه ساحر. ولكن فاتهم أنه لو كان سحرًا كما يزعمون لكانوا جميعًا أول المسلمين له والمؤمنين به ولو لبعض الوقت إلى أن يتمكنوا من التخلص من ذلك السحر، لكن العكس هو الصحيح، فقد ظلوا متكبرين على الحق، مبغضين له، زمنًا طويلًا، حتى انقشعت الغشاوة عن أعينهم وزالت الأقفال عن قلوبهم فدخلوا في دين الله أفرادًا ثم أفواجًا مؤمنين مسلمين.   آيات الصيام عميقة التأثير: آيات الصيام التي وردت في سورة البقرة آيات 187:183، بما اشتملت عليه من أسلوب إلهي عميق التأثير لهي أعظم من جميع ما انطوت عليه العلوم البشرية التنموية والتربوية والنفسية الحديثة، لأنها بما اشتملت عليه من أساليب، عالجت النفس البشرية فطيعتها لمراد الله بما لا يقع في خاطر إنسان ولا قدرة مخلوق أن يُطَيِّعَ به أحدًا إليه، قبل ظهور هذه العلوم في العصر الحديث، فقد كان العرب قبل فرض صيام رمضان لا تعرف إلا صيام اليهود، وهو صيام يوم واحد فقط من العام، يوم عاشوراء، ففرض الرسول صلى الله عليه وآله وسلم على المسلمين صيامه فور قدومه المدينة، فلما كان العام التالي نزل فرض رمضان من السماء، فصامه المسلمون، حتى أنهم من فرط استبسالهم في تنفيذ المطلوب كانوا يصومون الشهر كاملًا على نفس طريقة اليهود في صيامهم ليوم عاشوراء!، فلا يتناولون الطعام بعد منتصف الليل!، ولا يقربون نساءهم طوال الشهر، وقد كان هذا هو الحكم المعهود لديهم من شرع من قبلهم، لم ينزل به أمر جديد من عند الله، فياله من صيام شديد طويل، لأن ما يستطيع الإنسان فعله في يوم ليس بالضرورة يستطيع فعله في كل الأيام ولمدة شهر، مع ذلك صام المسلمون. فما هو السر الذي انطوت عليه آيات الصيام فجعلتهم لا أنهم يصومون فحسب، ولكنهم أيضًا يحبون الصيام وشهر الصيام؟ مع أنه امتناع عن الشهوات والملذات، بل ويَحْزَنون لفراقِ كل يومٍ فيه؟!قوة التأثير الروحي لآيات الصيام: لقد أثر القرآن المعجز في النفوس، فسهل عليها الانقياد لأمر الله تعالى، وذلك بإجراءات وتدابير سبق القرآنُ الكريمُ العلومَ الحديثة في اعتمادها بوصفها قواعد يحصل بها التأثير على سلوك الآخرين، بما يرفع مستوى استجابتهم للأمر والنهي بالفعل والامتناع، فنحن نجد أن الله تعالى في آيات الصيام قوىَّ إرادات المسلمين حيال فريضة الصيام بسبع محفزات جعلت من النهوض بالمأمور هَيِّنًا بل ومحبوبًا لديهم، وهذه المحفزات السبعة هي: التحفيز المشاعري:  فقد استثار القرآن الكريم المشاعر الإيمانية للمسلمين بالنداء في أول آية من آيات الصيام، فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا}، فخلع عليهم صفة الإيمان من باب تحفيز الإيمان الكامن في نفوسهم، لكي يستقبلوا أمره بهمَّةٍ وعناية، كما يفعل القائد مع جنوده، حين يطلب منهم تنفيذ مهمة من المهام، فيبدأ بقوله لهم أيها الأبطال، أيها الأسود، وهكذا، فبدأ التشريع القرآني للصيام بهذا النداء {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} كأنه يقول لهم إني سآمر بأمر لن يلتزم به منكم إلا من صح إيمانه، فعند ذلك يكون الحافز الأول لهم هو الوازع الإيماني، الذي استثاره ونشطه بهذا النداء. التحفيز العقلي:  فكما عمد إلى مشاعرهم فحفزها، فكذلك باشر التحفيز العقلي، حين وضع لصيامهم سببًا منطقيًا يُقرِّبُ الصوم إليهم، ويُقنعهم بأهميته، فقال: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} سورة البقرة آية: 183. لعلكم تصلوا إلى درجة التقوى التي وُعِدتم عليها بالجنة في عديد من الآيات، فلكي تكونوا من هؤلاء الذين وعدوا بالجنة والنعيم حين قال: { إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ} في سورة الطور آية: 17، و{ إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} في سورة الحجر، آية: 45، وفي سور أخرى كثيرة، لكي تكونوا من هؤلاء الموعودين لابد من فرض الصيام عليكم، هكذا وصل إلى قناعاتهم بأقصر عبارة، بكلمتين {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}، وهكذا جاءت الآية الأولى من آيات الصيام محفزة للمشاعر والعقول. التحبيب والتشويق: فكان من أهم ما اشتملت عليه آيات الصيام من المحفزات ذلك الحافز المهم وهو التحبيب والتشويق حين قال الله تعالى {وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ}، فقد جمع في بعض آية بين حافزين هما التحبيب في الفعل والتشويق إليه، إن هذا يشبه قول الوالد لولده إذا نجحت أتيتك بشيء تحبه لا يخطر على بالك أني آتيك به، فياله محفز وشاحذ للهمة، لقد وعدهم بالأجر، لكنه أجر لا يعلمه إلا الله تعالى، وعدهم بالخير دون تحديد ماهيته، وقَصَرَ إدراك هذا الخير على الذين يعلمون، فجاء بالوعد العام ولم يحدد الموعود به لتظل النفوس متشوفة إليه فيظل عنصر التشويق دافعًا إيجابيًا لمزيد من العمل والعطاء، لذلك أكد النبي صلى الله عليه وآله وسلم ذلك المعنى فقال: (كل عمل ابن آدم يضاعِف، الحسنة عشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، قال الله عز وجل: إلا الصوم، فإنه لي وأنا أجزي به، يدع شهوته وطعامه من أجلي) صحيح مسلم، فانظر كيف أطلق الملكات وحفز الطاقات حين نسب الأجر لذاته تعالى ليبين مدى عظمة ذلك الأجر، فهو أجر فوق إدراك الإنسان بجميع توقعاته.  استثارة العزم لأجل استكمال الفضل: وذلك في قوله تعالى: {كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ}، فهذا تحفيز للهمم الخاملة التي يرجى فيها الخير، كمن يكون له ابن يعرف عنه أنه فطن لبيب لكنه كسول، أو لعوب، فيقول له كل أبناء الحي أو العائلة أو ما شابه (من غير تحديد شخص بعينه) كلهم متفوقون، فهل ستكون مثلهم، أم أقل منهم، أم ستعمل لتكون الأفضل، اختر لنفس، فهكذا فعل القرآن، (ولله المثل الأعلى)، فقال إن من سبقكم من الأمم فُرض عليهم الصيام، حتى يبلغوا الدرجة العالية عند الله تعالى، فهل ستكونون مثلهم أم أحسن منهم، فقوله تعالى: {كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} هو استدعاء للقدوة من جانب، واستثارة للحماسة من جانب آخر. التهوين والتقليل بغرض تخفيف الإحساس بالمشقة: وذلك في قوله تعالى: {أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ}، أي قليلة، لأن معدودات جمع قلة فوصف الشهر بأنه أيام، ووصف الأيام بأنها قليلة، وهذا ليهون مشقة الصيام على نفوسهم، حتى يألفوه، ويعتادوه. التعظيم والتفخيم: فلقد هون من مقدار أيام الصيام عددًا لكنه عظم من قدر شهر الصيام، وبين أهميته عند الله تعالى، فقال: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ}، فمنزلة شهر رمضان إنما هي على قدر عظمة الكتاب الذي نزل فيه، فإذا كُنَّا معظمين للكتاب فعلينا أن نحفظ للشهر الذي نزل فيه عظمته، لذلك قال بعدها مباشرة: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ}، فهيأ النفوس بكل وسائل التهيئة، فحببهم وشوقهم وأقنعهم وهون الأمر عليهم وفخم وعظم من شأن شهر الصيام ثم ختم ذلك بالأمر الحاسم بوجوب الصيام، لكنه لم يتوقف عن التهيئة وتقديم الدعم الروحي والنفسي لهم، فبعد أن فرض عليهم صيام الشهر كاملًا، أتبع ذلك بتخفيفين. التخفيف والتدرج: لقد خفف عنهم الصيام في حالات السفر والمرض، ورضي منهم إطعام المساكين مكان الصيام في حالات المشقة الشديدة لكبر سن أو مرض دائم لا شفاء منه، فقال: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} سورة البقرة، آية: 184، وقال: {وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} سورة البقرة، آية: 185، ثم بين لهم ثانيًا أن الصيام إنما يبدأ زمنه من الفجر وليس من منتصف الليل، وأنه يحل في أثناء الفطر ما يحل في سائر الشهور بغير فرق، فقال: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ .. إلى أن قال: فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} سورة البقرة، آية: 187، فجاء ذلك التخفيف لهم بمثابة التثبيت والدعم والمساعدة والنجدة، فقد كان أحدهم يأتي إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم قبل ذلك فيقول له (هلكت) لأنه كان قد أتى حلاله من الليل. وخلاصة القول: أن القرآن الكريم يتعامل مع النفوس الإنسانية بِرُقِي واحترام، إذ لم يُقدِّم لنا تشريعاته في صيغ جامدة، حاسمة، حازمة، لا تراعي عقلًا ولا مشاعرًا ولا إرادة ولا أعذارًا، كما هو الحال في تشريعات البشر، إنما يُقدِّم القرآن الكريم تشريعه الرباني في صورة بهية آثرة، مُغلفة بالحب والتشويق والإقناع واستثارة العزم والتدرج، ليأتي بعد ذلك الحزم تحصيل حاصل لأمر قد انتهى منه المأمورون وفرغوا منه، وهكذا .. صار المسلمون يحبون الصوم.

مشاركة :