الشارقة: علاء الدين محمود خصص شعراء الصوفية قصائدهم في محبة الله عز وجل، فقد كانت الأشعار المحتشدة بمعاني الحب هي نجواهم ووسيلتهم للتقرب إلى الله عز وجل، وهي زادهم في طريق السالكين والترقي في المقامات والأحوال، وهي معينهم في دروب الحقيقة وأنوار المعارف، وإلى جانب ذلك وظف المتصوفة أشعارهم ونظمهم ونثرهم في مدح الرسول صلى الله عليه وسلم، ولقد برزت كثير من القصائد في محبة المصطفى تذكر أخلاقه وقيمه وتعاليمه وسنته، ومازالت ألسن الناس في العالم الإسلامي تردد العديد من تلك النصوص التي رسخت في أذهانهم، فقد تناقلوها، حيث تذكرهم بمواقف نبي الإسلام وشجاعته وخلقه، وهي السمات والصفات التي شهد بها العالم أجمع، ومازال كثير من الشعراء في العالمين العربي والإسلامي يكتبون الشعر في مدحه، فسيرته المجيدة تلهمهم وتدفعهم نحو قرض الشعر في مدح خير خلق الله. يعد الإمام شرف الدين محمد بن سعيد بن حماد الصنهاجي (608 696 ه)، من أشهر شعراء التصوف الذين برعوا في مدح المصطفى، وقد لقب بالبوصيري نسبة لمولده في بوصير بصعيد مصر، وتفوق في علوم اللغة والأدب وأصول البلاغة وقواعد العروض والقوافي، مع إتقانه حفظ القرآن الكريم والحديث، وقد تلقى تعليمه على يد كبار أئمة السنة وعلماء التصوف مثل أبو العباس المرسي، في الإسكندرية، واقترن اسم البوصيري بالمدائح النبوية، ولقيت نصوصه شهرة كبيرة بين الناس، ولعل أهم ما يميز تلك القصائد هو أنها تفيض رقة وعذوبة، فأشعاره تأتي كدفق وجداني صادق شفيف، حافلة بالمعاني، كما أن البوصيري أبدع في الألفاظ وتخير المفردات الساطعة، وحسن جودة النظم، وشكل لنفسه بصمة بل مدرسة خاصة به في مدح النبي، حتى تأثر به كثير من الشعراء في زمانه وما تلاه، فراحوا ينظمون الشعر على الطريقة ذاتها، وهو ما جعل قصائده تخلد بين الناس. دوافع وقد لقيت قصيدته «البردة»، أو «الكواكب الدرية في مدح خير البرية»، صدى كبيراً بين المسلمين، وما زالت تُردد بينهم، فهي تعد من عيون الشعر العربي على الإطلاق، ومن بين أجمل قصائد مدح الرسول، ولها قصة رددها ونقلها كثير من المؤرخين، فيقال إن البوصيري قد ابتلاه الله بمرض الفالج، فانقطع في بيته يتقرب إلى الله تعالى في صباحه ومسائه، فكتب تلك القصيدة وصار يرددها وينشدها طوال يومه، حتى رأى في منامه ذات يوم أنه يقرأها في حضرة النبي، ورأى في ذلك الحلم أن الرسول الكريم قد خلع عليه بردته، فاستيقظ من النوم وقد شفاه الله، وهذا هو السبب في أن تشتهر القصيدة باسم البردة، وقد أكسبتها تلك الواقعة بعداً روحياً، فصار الناس يُقبلون على قراءتها؛ بل قارن كثيرون بينها وقصيدة البردة للشاعر الكبير كعب بن زهير التي ألقاها في حضرة الرسول، فأعجبته القصيدة وفصاحة كعب وحسن نظمه، فكان أن خلع عليه بردته، وقد نال بها عفو النبي، وخلدت بين الناس، فهي تعتبر أجمل قصائد المدح النبوي على الإطلاق، والتي يقول مطلعها: بانَت سُعادُ فَقَلبي اليَومَ مَتبولُ مُتَيّمٌ إِثرَها لَم يُفدَ مَكبولُ تقليد ولئن كانت بردة كعب بن زهير هي أكبر درة في قلادة قصائد المدح النبوي، فقد اعتبر النقاد والمؤرخون بردة البوصيري ثاني أجمل نص شعري في مدح النبي؛ بل صار الشعراء يقلدونها وينسجون على منوالها لشدة تأثرهم بها. ولعل من أكبر الشعراء الذين تأثروا بقصيدة البوصيري، هو أحمد شوقي، فقد سار على طريقة البوصيري ذاتها حتى في استهلال القصيدة وخاتمتها، وقد أعجب بها الناس أيما إعجاب، وتغنت بها أم كلثوم، ويقول مطلعها: ريم على القاع بين البان والعلم أحلّ سفك دمي في الأشهر الحرم إلى أن يقول شوقي في أجمل أبياتها: يا رب صل وسلم ما أردت على نزيل عرشك خير الرسل كلّهم محي الليالي صلاة لا يقطّعها إلا بدمع من الإشفاق منسجم. وقد عدت كذلك من أجمل القصائد التي قيلت في مدح النبي، ويبدو أن مسيرة «البردة»، لا تريد أن تنقطع، حيث مازالت تُلهم الشعراء الشباب في عصرنا الراهن، وقد كتب الشاعر تميم البرغوثي أيضاً قصيدة أطلق عليها اسم البردة، تأثر فيها ببردتي البوصيري وشوقي، وهي التي يقول في مطلعها: ما لي أحِنّ لِمَنْ لَمْ أَلْقَهُمْ أَبَدَا وَيَمْلِكُونَ عَلَيَّ الرُّوحَ والجَسَدَا. لا حدود للجمال ولعل كثرة القصائد المسماة بالبردة يشير إلى تأثير نص البوصيري، والذي سار في نظم قصيدته على نهج الأقدمين، فقد تنقل من الغزل العفيف والتحذير من الهوى، إلى مدح الرسول صلى الله عليه وسلم، وتحدث عن مواقف في سيرته العطرة، ونماذج فريدة من أخلاقه العظيمة، ثم وصف القرآن، وليلة الإسراء والمعراج، والجهاد، وختمها بالتوسل والمناجاة، وهي قصيدة طويلة تقع في 160 بيتاً يقول في مطلعها: أمِنْ تذكّر جيرانٍ بذي سلم مزجتَ دمعاً جرى من مقلة بدمْ أم هبت الريحُ من تلقاء كاظمة وأومضَ البرقُ في الظلماء من إِضَم فما لعينيك إن قلتَ اكفُفا همتا وما لقلبك إن قلت استفق يهم ومن أشهر أبياتها: مولاي صل وسلم دائماً أبداً على حبيبك خير الخلق كلهم. وهو البيت الذي اعتاد الناس على قراءته في مستهل القصيدة وخاتمتها. وكعادة شعر المدح النبوي، فإن النص ينتهي بذكر شمائل النبي وطلب العفو، حيث يقول البوصيري: إنْ آتِ ذَنْبَاً فما عَهدِي بمُنتَقِضٍ مِنَ النَّبِيِّ ولا حَبلِي بمُنصَرِمِ فإنَّ لي ذِمَّة منه بتَسمِيَتِي مُحمَّداً وهُوَ أوفَى الخلقِ بالذِّمَمِ نص محتشد بالجمال والأنوار الساطعة، يتدفق منه المعنى كنهر مندفع يحمل الخير للناس بين ضفتيه، حيث لا توجد في الأدب العربي قصيدة من الشعر كان لها مثل هذا التأثير في الناس في كل البلدان الإسلامية.
مشاركة :