الشارقة: عثمان حسنتعتبر قصيدة «البردة» للبوصيري الأشهر من بين قصائد المديح النبوي، التي كتبت لتعدد شمائل وصفات الرسول الكريم محمد، صلى الله عليه وسلم.ومصدر هذه الشهرة هو قوتها البلاغية، ورصانة مبناها، ومعانيها، ومقدار ما اشتملت عليه من تصاوير، ومعان تحفز عند قارئها قسطاً إيمانياً فيه الكثير من الزهد، والتقوى، واليقين، والاستسلام لمشيئة وقدرة الخالق عز وجل.أما شاعرنا البوصيري فاسمه محمد بن سعيد بن حماد بن عبد الله الصنهاجي، ولد عام 608 ه، بقرية دلاص إحدى قرى بني سويف في صعيد مصر، أما نشأته فكانت في قرية بوصير التي استمد منها لقبه، وقد توفي البوصيري رحمه الله سنة 696 ه.كان القرآن الكريم هو المصدر الأول من مصادر تعلم البوصيري، فقد حفظه في طفولته، وتتلمذ على علماء عصره، وجرب في صغره أنواعاً من الشعر، لكنّ خياره استقر في نهاية المطاف على الزهد والتصوف، ومن ثم المدائح النبوية.شهرة هذه القصيدة، وسطوعها، وانتشارها بين الناس، جعل الكثير من النقاد يتناولونها بالشرح، والتعليل، حتى قيل إنها حازت إعجاب عدد كبير من أئمة المسلمين ومنهم: شهاب الدين القسطلاني، جلال الدين المحلي، خالد الأزهري، إبراهيم الباجوري، والنحوي ابن هشام الحنبلي، وهذا الأخير شرح قصيدة البردة شرحاً لغوياً سمّاه الكواكب الدرية. من هؤلاء أيضاً: محمد بن أحمد ابن مرزوق التلمساني، وابن العماد الحنبلي، وزكريا الأنصاري، ومحمد علي بن علاَّن الصدّيقي المكي، وابن الصائغ، وعلاء الدين البسطامي وغيرهم.وكعادة الشعراء القدامى، يبدأ البوصيري قصيدته بتذكر المكان، أو الطلل، وهو هنا جيران ذي سلم، وهو موضع بين مكة والمدينة، والشاعر هنا، جرّد من نفسه شخصاً آخر فقال له: ما بال دمعك قد أصبح غزيرا حتى مال إلى حمرة الدم؟ ألأجل تذكّرك الأحباب القاطنين بذي سلم؟يقول:أَمِنْ تذكّر جيرانٍ بذي سلم مزجتَ دمعاً جرى من مقلة بدمأمْ هَبَّتْ الريحُ مِنْ تِلْقاءِ كاظِمَةٍ وأوْمَضَ البَرْقُ فِي الظلْماءِ مِنْ إضَمِ فما لِعَيْنَيْكَ إنْ قُلْتَ اكْفُفا هَمَتا وَما لِقَلْبِكَ إنْ قُلْتَ اسْتَفِقْ يَهِمِويتابع البوصيري قصيدته، بمدح الرسول الكريم، فيصفه بأنه سيد الناس في الدنيا والآخرة، وسيد الإنس والجان وسيد العرب والعجم، كما يسترسل في المديح، فيصفه بالحبيب الذي ترجى شفاعته حين يصادف الناس أهوالاً، أو كروباً صعبة، فيدخلون هذه الأهوال من دون خوف، أو وجل، فالرسول، كما يصفه البوصيري، هو الحبيب الذي يتأمل الناس شفاعته يوم القيامة، فيحتمون به من المصائب، وكل ما يصيب المرء، أو يعترض طريقه.محمد صلى الله عليه وسلم، في مفتتح القصيدة بالنسبة للبوصيري هو مستجاب الدعوة، وإن المتمسكين به إنما هم يسلكون الطريق الصحيح، كما أن المتمسكين بحبل دعوته إنما هم متمسكون بحبل قوي لا ينقطع.. وفي هذا إشارة إلى عظمة النبي الكريم، وما استحوذ عليه من تكريم من الله جل وعلا، وهو الذي ملك الأرض تواضعاً، وخلقاً، وحباً، وإيماناً، ووفاء، ونبلاً، وقل ما شئت من الصفات النبيلة التي أتى على ذكرها البوصيري في هذه القصيدة الطويلة التي تعتبر من أبرز القصائد في المديح النبوي، في شخص وروح الرسول محمد عليه الصلاة والسلام.لقد فاق محمد عليه الصلاة السلام في قصيدة البوصيري النبيين في أخلاقه وفي خلقه، وأن هؤلاء الأنبياء لم يقاربوه في علمه ولا أدبه، وهو الذي سافر من المسجد الحرام إلى الأقصى، في إشارة إلى سورة الإسراء، إسراء شبهه البوصيري بالبدر في ليلة حالكة السواد والظلمة، فنال منزلة عظيمة لم ينلها نبي أو بشر من قبل.يقول:نبينا الآمرُ الناهي فلا أحدٌ أبرّ في قولِ لا منه ولا نعمِهو الحبيب الذي ترجى شفاعته لكل هولٍ من الأهوال مقتحمدعا إلى الله فالمستمسكون به مستمسكون بحبلٍ غير منفصمفاق النبيين في خلقٍ وفي خُلُقٍ ولم يدانوه في علمٍ ولا كرموكلهم من رسول الله ملتمسٌ غرفاً من البحر أو رشفاً من الديمِوواقفون لديه عند حدهمُ من نقطة العلم أو من شكلة الحكمفهو الذي تم معناه وصورته ثم اصطفاه حبيباً بارئُ النسمتمتاز هذه قصيدة بروح عذبة، ومعان صادقة، وتصوير وتعبير مستلهم من حب البوصيري للرسول الكريم، ويبرز في القصيدة مستوى البلاغة استعمال للبديع والبيان، كما غلب عليها استخدام المحسنات البديعية.
مشاركة :