لم تعد تونس قادرة على إقناع أي كان بسردية الحياد في الملف الليبي، وهو أمر كان يمكن أن يأخذ مدى حقيقيا مع صعود الرئيس قيس سعيد إلى الرئاسة، لكن الرئيس التونسي وجد نفسه محاطا بسياقات محلية وإقليمية دفعت مباشرة إلى أن يكون في قلب الصراع من خلال الوقوف على مسافة أقرب لحكومة الوفاق الليبية المدعومة من تركيا ومن حركة النهضة الإسلامية في تونس. بات الرئيس التونسي، ومنذ أول لقاءاته الخارجية، محكوما بتمتين العلاقة مع أنقرة والدوحة واستقبال الرئيس التركي رجب طيب أردوغان ثم أمير قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني. والأكثر إثارة للاستغراب والتساؤل أن تونس باتت مطالبة بالتوضيح والتفسير كلما صدر عن أحد مسؤوليها، بمن في ذلك الرئيس سعيد، موقف ما بشأن القضايا الإقليمية، أو الاتصال بشخصيات إقليمية محسوبة على الحلف المقابل للحلف القطري التركي، من ذلك ردود الفعل على الاتصال الذي جرى بين الرئيس التونسي وولي عهد أبوظبي الشيخ محمد بن زايد، والذي تركز حول كورونا ووعود إماراتية بمساعدة تونس على مواجهة الوباء، وقبله مع الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي في سياق مساعي قيس سعيد لحشد دعم إقليمي لمبادرته بشأن ليبيا، وخاصة في مساعيه لإعادة التوازن لعلاقات تونس عربيّا. وظهر الأمر أكثر جلاء في الضغوط التي مورست على وزير الدفاع التونسي عماد الحزقي، بعد تصريحات قال فيها إن بلاده اضطرت إلى التنسيق مع ميليشيات مسلحة على حدودها الجنوبية، وهي ضغوط من الداخل ومن الخارج حتى بدا وكأن الدبلوماسية التونسية بات موقفها من الملف الليبي يصاغ في الدوحة أو أنقرة، ولا يعترف به قبل أن يصادق عليه رئيس حركة النهضة راشد الغنوشي، ورئيس البرلمان في آن واحد، مع أن حقيبة الخارجية والدفاع ومتابعتهما من صلاحيات الرئيس. ويقول مراقبون إن سعيد لم تتح له الفرصة لاختيار موقف واضح مما يجري في الملف الليبي، وأن مبادرته دفعت إلى التهميش بعد أن سعى من خلالها إلى توسيع اتصالاته إلى شيوخ القبائل وممثليها بمن في ذلك من يدعمون المشير خليفة حفتر ورئيس البرلمان عقيلة صالح. وعدا ذلك فالملف الليبي بيد حركة النهضة من 2011 وإلى الآن، بما في ذلك فترة الرئيس الراحل الباجي قائد السبسي، حيث ظل الرهان التونسي مرتبطا بالجماعات المسيطرة على العاصمة الليبية طرابلس، وهي تكيف الموقف الحكومي وفق تحالفاتها الأيديولوجية والإقليمية. الأَولى بالنسبة إلى تونس أن تدفع في اتجاه خيار الحل السياسي سواء من بوابة مبادرتها الخاصة، أو في سياق تحرك دول الجوار، أو ضمن سياق أشمل، تفاهمات برلين الأخيرة، وهذا ما يتطلب النأي بالنفس عن الدعم المباشر لطرف على حساب آخر، وخاصة فتح الباب أمام الدعم الخارجي، الذي وضع تونس في صورة الدولة الشريكة في الحرب والمنحازة إلى حكومة الوفاق التي تحيط نفسها بمجاميع عسكرية وبأجندات متناقضة بينها القبلي والمناطقي والإسلامي بكل أنواعه، ومن الصعب إرضاؤها في أي تسوية سياسية وتذويبها في مؤسسات الدولة. ولن تصل تونس إلى أي نتيجة من تحالفها مع المجاميع المختلفة في طرابلس، فلن تكون قادرة على تثبيت حليف قوي في العاصمة الليبية يحفظ مصالحها على مدى بعيد، خاصة أن تلك المجاميع تشتغل بالوكالة لفائدة قوى أخرى تضخ الأموال والأسلحة، ولديها الأولوية في ضمان المصالح في ما لو نجحت الفسيفساء القبلية والمناطقية في فرض سيطرتها أمنيا وسياسيا على العاصمة الليبية. كما أن تونس لن تقدر على تأمين نفسها من هجمات عشوائية تنفذها إحدى الميليشيات التي تريد إثبات قوتها العسكرية من خلال التحرش بالحدود التونسية واستهداف المركز الحدودي رأس جدير، أو توجيه رسائل تهديد ووعيد لها عبر أشرطة الفيديو، هذا إذا كان الخطر في حده الأدنى ولم يمر إلى تهريب الأسلحة والانتحاريين لتنفيذ عمليات “تأديبية” ضد تونس في أي لحظة تغير فيها خطابها أو تحالفاتها. وسيكون الأمر أكثر تعقيدا لو أن القوات الآتية من الشرق تنجح في فرض سيطرتها على العاصمة طرابلس ومدن الغرب الليبي المحاذية للحدود التونسية، وهو أمر ممكن خاصة أن تلك القوات نجحت في التمركز في هذه المناطق لفترة طويلة قبل أن تتراجع في الأسابيع الأخيرة، وطالما أن المعارك كر وفر، فإن عودتها إلى الحدود أمر ممكن جدا، وهو أمر لم تحسب له تونس حسابا ليس لتقصير في التقديرات، ولكن لأن حكومات ما بعد 2011 اختارت الانحياز إلى طرف واحد لا يحوز ثقة المجتمع الدولي، ونجاحه يضر بالبلاد أكثر من نفعه. ولهذا، فإن مصلحة تونس في الدفع نحو حل سياسي حقيقي يجمع بين الفرقاء المختلفين، بقطع النظر عن الموقف من حفتر، ولكن أساسا ينهي الميليشيات كحالة سياسية وأمنية دائمة في طرابلس، وبناء نظام يحوز على اعتراف إقليمي ودولي حتى لا يتحول إلى عبء عليها، اقتصاديا، خاصة أن تونس باتت الممول الرئيسي لطرابلس بالمواد الغذائية والأدوية، فضلا عن تحول ليبيا إلى وجهة مفضلة لتهريب المواد الأساسية، وهو ما أربك السوق التونسية. ورغم أن الوضع لم يصبح نهائيا، فإن تونس تدفع الآن فاتورة تحالف حكومات ما بعد 2011 مع إسلاميي ليبيا وحكومات الواجهة في طرابلس، حيث باتت علاقاتها الخارجية في حالة فتور مع عمقها الإقليمي والعربي، وهو ما أثّر على استفادتها من الاستثمارات العربية، والخليجية على وجه الخصوص، كما فشلت في تطبيع ثورتها مع عمقها العربي ولم تستفد من إمكانيات دعم واعدة لإسناد انتقالها الديمقراطي ماليا واقتصاديا، فضلا عن حالة الارتياب التي باتت تحيط بهذا الانتقال لسيطرة الإسلاميين عليه دون تبديد المخاوف الإقليمية من شبكة ارتباطاتهم الخارجية. إن الدول تقيم علاقاتها الدولية على ضوء مقياس أساسي هو مقياس المصالح، ومن مصلحة تونس ألا تكون مع جهة دون أخرى، وأن تدفع مع دول الجوار ومختلف المتدخلين نحو حل سياسي شامل يوازن بين مصالح الفرقاء الليبيين ومصالح تونس. والطريق السالكة هنا، هي طريق المبادرات الإقليمية الجامعة، والتي تتطلب ضغوطا على طرفي الأزمة كل حسب علاقاته. وتونس بيدها أوراق كثيرة للضغط على المجاميع التي تسيطر على العاصمة طرابلس لتقبل بحل جامع يقوم على تفكيك الميليشيات التي تهدد أمنها هي قبل غيرها، ونتذكر كيف تسلل العشرات من المسلحين في مارس 2016 إلى مدينة بنقردان وحاولوا السيطرة عليها، وكانوا قادمين من ليبيا، وقد أمنت تحركهم وأسلحتهم مجموعات موجودة في ليبيا، وهو ما يعني أن فوضى السلاح في الجارة الجنوبية سترتد على تونس قبل غيرها. وليس هناك من خيار سوى أن تقدم تونس مصالح الدولة على مصالح الأحزاب والمجموعات السياسية العابرة للحدود، فحركة النهضة كجماعة ذات خلفية إخوانية من مصلحتها سيطرة الإسلاميين بعناوينهم المختلفة على طرابلس، وهي لذلك تنشط بحماس لاستقبال شخصيات وتنظيم لقاءات في تونس لإنجاح هذا الخيار، لكن الرئيس قيس سعيد، الذي هو الضامن لمصالح البلاد يحتاج إلى أن يخرج من الحياد الموجه لخدمة الإسلاميين إلى موقف حازم يصوب غياب التوازن في مواقف الدبلوماسية التونسية في الملف الليبي، وهي خطوة قد تمنع عن تونس أخطارا مستقبلية كثيرة، أما الاستمرار على الوضع الحالي فقد يقود إلى توترات أمنية وخسارات اقتصادية في بلد يمثل عمقا حيويا للبلاد تجاريا واقتصاديا، وخاصة في استقطاب اليد العاملة.
مشاركة :