كان محمد الولهان عشقا بجارته راحيل يترنح وجعا وهو يغني “يا نبعة الريحان” في مشهد تعبيري مؤثر بمسلسل “أم هارون” المتواصل عرضه. فالعاشقان مسلم ويهودية يحول بينهما حاجز عصيّ على الفهم عندما يحب الإنسان. لم يغفل مؤلفا المسلسل محمد وعلي شمس، دلالة أن يكون اللحن عراقيا وبصوت عراقي، أما أن يكون الملحن والمغنية يهوديان فمرتبط بطبيعة أحداث العمل نفسه. تلك أغنية تعد فاصلة في تجربة سليمة مراد الغنائية كتبها الشاعر عبدالكريم العلاف، مثل مجموعة أخرى من الأغاني ولحنها الموسيقار العراقي صالح الكويتي، والاستعانة المكررة بهذه الأغنية في أكثر من حلقة من مسلسل “أم هارون” كان بدلالة يهوديةِ سليمة وصالح، لكن العمق التعبيري في الأغنية يكاد يطوف بخيال الملايين، وها هي تعود لتتكرر بألسنة العرب من الخليج حتى شمال أفريقيا، في مقام اللامي العراقي. في يوم ما اعترف شاعرها العلاف بأن حبه لسليمة يتوازى مع حب الملحن صالح لها، وهذا سبب نجاح الأغنية آنذاك، وتدفقها التاريخي اليوم. استعادة صوت سليمة مراد في هذا المسلسل لا تكتفي بفكرة الحنين وإن عبرت بامتياز عن روحية الأحداث، لكنها تذكير عميق بقيمة الغناء كفاصلة تاريخية في مدونة الشعوب. وسليمة التي رحلت عام 1974 تكاد تجيب في تجربتها الإنسانية على السؤال الأكثر ترددا منذ سنوات “هل نحن مختلفون حقا إلى هذا الحد؟”، فهي العراقية اليهودية التي رفضت الهجرة إلى إسرائيل عندما عرض عليها ملحنها صالح الكويتي الهجرة، لم تجد غير جملة أن جمهورها في العراق وحياتها هنا، ولا يمكن أن تغادر وطنها. شعر صالح الكويتي بعد سنوات بالندم لأنه ترك العراق واعترف لي ابنه شلومو بذلك في حوار منشور في صحيفة “العرب” قبل سنوات. فهجرته إلى إسرائيل كانت تحت ضغط أهل زوجته، ولم يجد آنذاك غير “سوق للغبار الديني” ضاع فيه مع شقيقه الفنان داود الكويتي، فاضطرا بعد سنوات المجد الفني في العراق إلى فتح دكان لبيع المواد المنزلية في إسرائيل. درس سليمة مراد القديم يعاد اليوم ليس بأحداث درامية عن تعايش الأديان مع بعضها وتقاطع الناس حيالها، لكنه بفكرة أنه جزء من التعبير الجمعي للثقافة الإنسانية والوطنية المشتركة بغض النظر عما يؤمن به الأشخاص. لم تغب سليمة مراد عن تاريخ العراق المعاصر فنيا وسياسيا، ولم تغب أغانيها عن الإذاعة العراقية في أوج سنوات المنع والتفسيرات السياسية الضيقة. بعد الرحيل المفاجئ لزوجها ناظم الغزالي لم تختصر سليمة حياتها على الاستذكار، بل بقيت عراقية ومعبرة بامتياز عن تلك الوطنية دون أن تحول يهوديتها بينها وبين ذلك. أخبرني عميد الغناء العراقي الموسيقار الراحل عباس جميل في حوار منشور في صحيفة الجمهورية البغدادية، كيف أنه التقى سليمة مراد في “نادي العلوية” بعد سنوات من توقفها عن الغناء واقترح عليها لحنا لأغنية “يا يمة ثاري هواي” فكانت آخر ما غنت. من يعود إلى تلك الأغنية اليوم يكتشف ما معنى أن يكون الغناء عراقيا! * نقلا عن "العرب"
مشاركة :