وسط ظلام دامس، يتجوّل المسحراتي عبدالفتاح البيور وهو يقرع بملعقة على طنجرة صغيرة بين خيم النازحين في شمال غرب سوريا، داعياً الصائمين الذين شرّدهم التصعيد الأخير من بلداتهم، إلى الاستيقاظ قبل صلاة الفجر. في مخيم للنازحين قرب قرية كللي في شمال محافظة إدلب، يستيقظ عبدالفتاح (42 عاما) عند الساعة الثانية بعد منتصف الليل خلال شهر رمضان. يرتدي عباءة رمادية وقبعة بيضاء اللون، يوقظ ابنه البكر مصطفى قبل أن ينطلقا. وبينما يتناوب مع نجله على قرع الطنجرة، تصدح حنجرته “اصحى يا نايم، وحّد الدايم، وحّد الله، قوموا إلى سحوركم، فإن في السحور بركة”. ويشقّ طريقه مستنيراً بضوء مصباح صغير يحمله مصطفى، في تقليد يتبعه منذ 15 عاماً. ويقول، “كنت سابقاً أمشي في بلدتنا بين المنازل الحجرية والشوارع المعبّدة، فيما أسير اليوم في طرق ترابية بين الخيم.. بعدما غادرنا قريتنا”. قبل ثمانية أشهر تقريباً، نزح الرجل وهو أب لخمسة أطفال من قريته كفرومة في ريف إدلب الجنوبي، مع اقتراب المعارك. وانتقل مع عائلته على غرار العشرات من عائلات أقاربه وجيرانه إلى مخيم للنازحين قرب كللي القريبة من الحدود التركية. في منزله، ترك عبدالفتاح كل ما يملكه، وبينها عدّة المسحراتي من لباس خاص عبارة عن سروال فضفاض وسترة مطرزة وطبلة. إلا أن مرارة النزوح لم تثنه عن الاستمرار في القيام بمهمته خلال شهر رمضان والتي يريد أن ينقلها لابنه. ويقول بشغف “المسحراتي مهنة وهواية في الوقت ذاته.. أمارسها لأنني أعشقها أولاً ولكونها مصدر رزق ثانياً”. ويضيف “أوقظ سكان المخيم على سحورهم وأنا أكسب أجراً وثواباً”. خلال شهر رمضان، يكسب عبدالفتاح رزقه نهاراً من خلال بيع حلوى محلية خاصة بشهر رمضان تسمى المعروك. يشتري الحلوى من أحد الأفران ويضعها على عربة خشب يتجول بها في شوارع قرية كللي. وفي الأيام الأخرى، يعمل بائع بوظة متجولا على دراجته النارية في المخيم. وتقليد المسحراتي راسخ في ذاكرة السوريين في المناطق كلها. وبالنسبة إلى النازحين الذين شرّدتهم سنوات الحرب التسع، تعيد لهم ذكريات جميلة وتوقظ حنينهم إلى بلداتهم وعاداتهم. ويفتقد النازحون السوريون في مخيمات أخرى في لبنان وتركيا والأردن المسحراتي. يقول الشاب فراس، وهو مقيم في مخيم الزعتري، حاول بعض الأفراد القيام بدور المسحراتي في السنوات الأولى من إقامتنا هنا، لكنها قليلة جداً، وتستمر لأيام معدودة فقط، كون الناس هنا يعيشون ظروفا نفسية صعبة، ومن يقوم بعمل المسحراتي لا يحصل على أي أجر أو مكافأة. لا يختلفُ الوضع كثيراً في المخيمات اللبنانية، التي يسكنها 16 في المئة من اللاجئين بين المخيمات الرسمية والعشوائية، يقول راشد الذي يسكن في أحد مخيمات عكار شمال شرق لبنان، “لم أر مسحراتي هنا من قبل، أعتقد أن إعالة الأهل هو ما يشغل السوريين الآن، وليس لدي رغبة أن أبذل جهداً في هذه المهنة التي لا تدر المال”. ويقول الشيخ عدنان (70 عاما)، لا زينة في المخيم تُعلمنا بقدوم الشهر الفضيل، ولا طبل المسحراتي ولا ملابس جديدة للأطفال استعداداً للمناسبة، كلّ ما يريده النازحون هنا هو تأمين الطعام والشراب، والقوت اليومي الذي يحتاجون إليه. وفي مخيم “نيزيب” جنوبيّ تركيا، يرى أبومحمد (53 عاما)، أن عدم وجود مسحراتي يعود إلى أسباب نفسية قاسية، يعيشها اللاجئون هناك، يقول “لم نشاهد المسحراتي منذ وصولنا إلى المخيم، فهو مظهر من مظاهر الفرح، والسوريون هنا يعيشون جواً من الحزن، كما أن معظم الأجواء الرمضانية التي اعتدنا عليها سابقاً اختفت الآن، كونها مرتبطة بأجواء البهجة التي لم نعد نشعر بها”. ويواجه الملايين من اللاجئين والنازحين ممن يصومون شهر رمضان هذا العام واقعا صعبا، حيث يصارع معظمهم الزمن من أجل تدبر أمورهم المعيشية، وهم أغلبهم مثقلون بالديون ويضطرون للاستغناء عن بعض وجباتهم، أو اللجوء إلى عمل الأطفال أو الزواج القسري. وما زال الجميع يأمل في العودة إلى الديار، يقول شاهين أبومحمود ، إنه واحد من 6 ملايين سوري تركوا ديارهم واضطروا للرحيل، مضيفا “رغبتنا الوحيدة هي العودة إلى بيوتنا والعيش فيها ولو في الحد الأدنى من الأمان والإمكانيات”. ويقول سليمان السلمو (55 عاماً)، وهو نازح من قرية كفرومة مع زوجته وأطفاله العشرة، ويقيم في المخيم قرب كللي لوكالة فرانس برس “معتادون على المسحراتي عبدالفتاح البيور منذ كنا في القرية”. ويتذكر كيف “كان يدور حاملاً طبله، الذي تحفظ القرية كلها صوته”، موضحاً “لوجوده في المخيم أهمية خاصة”. ويضيف “نتمنى الرجوع إلى القرية فإن طقوس رمضان فيها أجمل من هنا بكثير”.
مشاركة :