المقهى ذاكرة المدينة ولدمشق حكايات تطول مع المقاهي حيث انتشر فيها عدد كبير منها يعود في معظمه إلى القرن التاسع عشر الميلادي، ومقهى النوفرة الذي يغلق لأول مرة منذ قرابة القرنين من الزمان بسبب جائحة كورونا يثير الخيال بذكريات بعيدة وأحلام يقظة تعيد صياغة الأشياء والأحداث في أسواق مدينة دمشق القديمة. بعد ما يزيد على القرنين من العمل دون انقطاع يُغلق مقهى النوفرة عنوان مدينة دمشق القديمة أبوابه أمام زبائنه في إطار الإجراءات الوقائية المفروضة في البلاد لمواجهة تفشي فايروس كورونا. المقهى لم يغلق حتى زمن الحرب الطاحنة عندما كان المسلحون يمطرون العاصمة السورية بقذائف الهاون القادمة من الغوطة الشرقية قبل أن يستعيدها الجيش السوري في مارس 2018. وجرى إغلاق المقهى الشهير مثل أي مطعم أو مقهى في دمشق بعدما قررت الحكومة إغلاق الأماكن العامة لحماية الناس من انتشار مرض فايروس كورونا الجديد. وبسبب إجراءات الوقاية من الوباء، باتت أبواب مقهى النوفرة موصدة، وتكومت الكراسي والطاولات في زاوية واحدة بانتظار زواره، الذين كانوا يترددون عليه للسهر في ليالي رمضان. قال محمد رامي الرباط، وهو أحد أصحاب المقهى لوكالة أنباء “شينخوا”، إنه “خلال 250 عاما من امتلاك عائلته لهذا المقهى لم يغلقوا أبوابه بقدر ما هو الآن” خلال انتشار كورونا. رغم مساحته الضيقة، فإن النوفرة يتمتع بشهرة كبيرة لدى السوريين والسياح الأجانب، فهو أقدم مقهى في دمشق بعمره الذي تجاوز مئتين وخمسين سنة، كما يعدّ المقهى الوحيد الذي ما زال محافظا على التراث العريق للمقاهي الدمشقية القديمة. وقال الرباط “هذا المقهى معروف من قبل السوريين ويقصده كل من يزور مدينة دمشق القديمة، وعمره الزمني حوالي 250 عاما، وله عراقة تاريخية”. وقال أبومازن أحد زبائن المقهى، الذي ما زال ينتظر فرصة إعادة فتحه في رمضان، لا يزال المقهى يحتفظ بطريقته الشعبية في تقديم النرجيلة العجمي “التنباك” والمشروبات الساخنة “الشاي الخمير”، مضيفا أنه يواظب على زيارة المقهى منذ العشرات من السنين، وخاصة في شهر رمضان، فبعد الإفطار يأتي ليستمع للحكايات التقليدية القديمة التي يلقيها الحكواتي وهو يعتلي الكرسي الذي يتصدر وسط القاعة المغلقة للمقهى حاملا بيده سيفا يلوح به خلال سرده لمجريات حكاياته الشيقة. ويُعرف المقهى حسب الباحث التاريخي غسان كلاس بالزحام الذي يميزه وبعتباته الثلاث وشرفاته التي يشتهر بها، وإطلالته على الجامع الأموي، وتتسع الصالة الداخلية فيه إلى 24 طاولة يجلس على كل واحدة منها أربعة أشخاص، أما الصالة الخارجية يفضلها الزوار للاستمتاع بمشاهدة العابرين إلى الجامع الأموي والمتسوقين والسياح. وسمي المقهى بالنوفرة نسبة إلى نافورة أو فوارة من الماء في بركة تظللها عريشة من ورق العنب، كانت تقع قبالة المقهى المقام في حي يقع ما بين الباب الشرقي للجامع الأموي المسمى باب جيرون وحي القيمرية، الذي كان يعرف في السابق باسم الهند الصغيرة لاشتهاره كمركز تجاري واسع. وما يميز المقهى هو عمارته العريقة إضافة إلى الإطلالة المميزة التي يملكها وأرضية الساحة مرصوفة بأحجار البازلت الأسود، كما أن موقعه الفريد جعله محطة لا بد وأن يمر بها أي عابر لدمشق القديمة. قالت الشابة السورية ندى متذكرة أجواء جلساتها في المقهى “حين تجلس على الكرسي الخشبي القديم تسحرك جدران المقهى ولوحاته التي تشكل معرضا للفنانين الذين عاصروا المقهى على مدى أزمنته الغابرة”. وأضافت متحدثة على الحركة في المقهى قبل إغلاقها “حين تلتفت إلى القاعة الخارجية تجد إلى جانب درجها عددا من الشباب والشابات بوجوه متشوقة، ينادون نادل المقهى بصوت شجي طالبين منه النرجيلة التي يحبون والشاي، وما أن تبدأ بارتشاف الرشفة الأولى منه حتى تشعر بأنه أنهى تعب ساعات طويلة من الصيام والعمل الشاق”. وعلى الرغم من أن المقهى الآن مغلق، إلا أن الرباط يأتي كل يوم لتفقده وفتح أبوابه بقصد التهوية ودخول أشعة الشمس إليه وسقي الورود الموجودة على الشرفة، كما يستقبله المارة الذين يأتون ويلتقطون الصور أمام المقهى، ويطلب بعضهم الإذن للدخول والتقاط الصور رغم إغلاقه أمام الزبائن. الرباط وضع داخل المقهى سريرا ليتمكن من الاستلقاء والاسترخاء بمفرده، قائلا “إن هذا المكان يعيش بداخلي ولا يمكنني التوقف عن القدوم إليه”. وأضاف “آتي إلى هنا كل يوم لأن روحي تحب هذا المكان. وكأنه يعيش في داخلنا ونحن نعيش فيه. أتمنى أن تمر أزمة فايروس كورونا بسرعة وأن نعود إلى عملنا ونفتح المقهى”. وبيّن الرباط أن المقهى لديه زبائن اعتادوا الحضور كل يوم، وهم الآن يحسبون الأيام حتى تنتهي الأزمة، مؤكدا أنه يتلقى مكالمات هاتفية من زبائنه كل يوم يسألونه متى ستتم إعادة فتح المقهى. وقال وسام حمودة أحد هؤلاء الزبائن، إنه يشعر بشيء مفقود عندما لا يزور المقهى، موضحا “أنا أعيش في دمشق القديمة وكنت أزور المقهى كل يوم حتى لو لم أكن أرغب في شرب الشاي أو تناول الشيشة، لقد مررت لأنني في اليوم الذي لا آتي فيه أشعر أن هناك شيئا مفقودا بداخلي، خاصة في رمضان”. وخففت الحكومة السورية في الآونة الأخيرة بعضا من إجراءات مواجهة وباء كورونا، بما في ذلك عودة الموظفين تدريجيا للعمل والسماح بفتح الأسواق، لكنها واصلت العمل بعدة إجراءات وقائية، منها فرض حظر التجول الليلي وإيقاف وسائل النقل الجماعي ومنع التنقل بين المحافظات. ورغم ذلك يقال إن الحكومة قد تخفف القيود على المقاهي والمطاعم في وقت ما بعد عطلة عيد الفطر كجزء من تخفيف الإجراءات ضد فايروس كورونا. وينتشر في دمشق عدد كبير من المقاهي العريقة، التي يعود تاريخ إنشاء معظمها إلى القرن التاسع عشر، ويطل أغلبها على الشوارع الرئيسية والأسواق الشعبية القديمة، كما تنتشر في الحارات مقاهي الحي، وتجمع المصادر التاريخية أن عدد المقاهي في دمشق تراوح في الربع الأخير من القرن التاسع عشر بين 110 و120 مقهى، منها مقهى السكرية والقماحين اللذان يقعان في باب الجابية، ومقهى العصرونية والرطل في باب توما، وجاويش في القيمرية وغيرها الكثير، لكن أغلبها لم يعد موجودا وتغيرت أنشطتها التجارية.
مشاركة :