الشام كلها في مقهى النوفرة، بشعرائها وعشاقها وزخارف عمارتها وشبابيكها وحوارييها ونساكها ومجانينها وأطعمتها وأعمدتها بالأسود والأبيض وخضرة أشجارها المتسلقة وأضرحة عارفيها ومحترفات فنانيها وشرفاتها المطوقة بالأزهار.العرب فاروق يوسف [نُشر في 2017/09/24، العدد: 10761، ص(10)]سبب للحنين إلى دمشق لندن - في زيارتي الأولى لدمشق نصحني الأصدقاء بزيارة مقهى الروضة والجلوس هناك. ذلك طقس عرفه التائهون العراقيون من الأدباء وغير الأدباء. لم أتبع تلك النصيحة لأنني لا أحب مجالسة الأدباء ثم أني لا أحب الجلوس في مقهى وحيدا. نصف نائم أثناء إقامتي في المدينة القديمة، بباب توما بالتحديد كنت استغل الوقت الذي أكون فيه منفردا بنفسي فأقوم بجولات بين الأزقة التي تضج برائحة الياسمين. كانت الشام كلها هناك. بشعرائها وعشاقها وزخارف عمارتها وشبابيكها وحوارييها ونساكها ومجانينها وأطعمتها وأعمدتها بالأسود والأبيض وخضرة أشجارها المتسلقة وأضرحة عارفيها ومحترفات فنانيها وشرفاتها المطوقة بالأزهار ومخازن حريرها ونعومة نسائها وجمالها في الكلام كما في العمارة ورطوبة ظلالها وخيوط شمسها وأندلسها وموسيقى نافوراتها التي تحترق جدران بيوتها لتنساب برقة على الأرصفة. كل تلك الدروب كانت تلتقي عند السلالم التي ما إن يرتقيها المرء حتى يجد نفسه في مواجهة الباب الخلفي للجامع الأموي. هناك تقع مقهى صغيرة أنيقة لا تلفت النظر كتب اسمها بطريقة لا تشي بالكثير من الحرفة في مدينة الخطاطين “مقهى النوفرة”. على جناح الياسمين في نهاية كل نزهة صرت أجلس في تلك المقهى ولم أكن في حاجة إلى مترجمين لكي أقيم حوارا مع عشاق الشام القادمين من مختلف أصقاع الأرض. كانت هناك فرنسية تتكلم عربية فصيحة مدهشة تعلمتها في دمشق. “أجلس هنا كل نهار لكي استوعب مزاج المدينة الجديد” قالت. دمشق مدينة مزاج شعري متغير ومتجدد. في أحد أيامي الأولى ولم أكن قد تعرفت على شيء من أسرارها شعرت فجأة فيما كنت أمشي في أحد شوارعها بأني غُمرت برائحة زكية اهتزت لها روحي فسألت منير الشعراني وقد كان معي عن تلك الرائحة فقال مستغربا جهلي “إنه الياسمين يا صاحبي”. يومها أدركت معنى أن يعيش المرء في مدينة تعبق شوارعها برائحة الياسمين. تقول الفرنسية “أجمل ما في هذا المكان أنه لم يُصب بلوثة السياحة، مقاوما كل الأسباب التي تدعوه للذهاب في ذلك الاتجاه”. يضللك مقهى النوفرة حين يجعلك تشعر بأنك تجلس في مقهى عادي. ذلك لأنك بعد سنوات ستندم على ذلك الشعور. كنتَ في مقهى لا تشبهها مقهى أخرى. نبع الحكايات الدمشقية “السوريون على قدر هائل من الكرم واللطف والنظافة” قالت لي الموظفة السويدية في دائرة رعاية المواطنين حين استشرتها في مسألة الذهاب إلى سوريا وكنت مسكونا بقرفي العراقي من بلد يحكمه البعث. ذكريات سيئة لا يمكن للمرء أن يتخلص منها. قالت “إنه من أكثر البلدان أمنا بالنسبة للسائح. لن يخدعك أحد هناك وستكون الأمور واضحة ما إن تطأ قدماك شوارعها” حدث ذلك عام 2010 وكنت تلقيت دعوة من رفيا قضماني التي كانت تقيم ندوة عن الفن العربي بإشراف قاعتها. بسبب خطأ في الحجز اضطررت إلى أن انتظر أكثر من عشر ساعات في مطار ستوكهولم. وصلت دمشق متعبا في ساعة متأخرة. ولأني كنت أول المحاضرين فقد اعتذرت من الجمهور الذي غصت به قاعة المتحف الوطني كوني سألقي محاضرتي نصف نائم. كانت تلك المحاضرة واحدة من أكثر المحاضرات التي ألقيتها في حياتي نجاحا. قال لي ياسر صافي وهو رسام سوري وهو الذي قادني بعد ذلك إلى مقهى النوفرة “لقد شددتَ الجمهور إليك بحكاياتك. هذا شعب يحب الحكايات”. لم أكن أعرف يومها أن صافي قادني إلى نبع الحكايات الدمشقية.النوفرة أقدم مقهى في دمشق يعود تأسيسه إلى ما قبل 500 سنة. حكاية لم يتم التثبت من صحتها غير أنها مثل باقي حكايات المدينة العريقة قابلة للتصديق بسبب سحرها سيكون علي في ما بعد أن أجلس مثل طلاب الكتاتيب لأتلقى العلم من رجل هو الحكواتي الذي يجلس على منبر ولم يكن يحمل عصا. “يا سادة يا كرام” يبدأ فيفيض نهر الكلام. لم يكن المطلوب أن نصدقه. كان سحر الحكاية كفيلا بأن ينسينا الكثير من الأسئلة وكان المشهد أسطوريا كما لو أنه لم يقع إلا من أجل أن يؤكد أن الحياة ليست سوى حلم. قالت الفرنسية “منذ أن تعلمت العربية بدمشق وأنا أحلم من خلالها” وأضافت “حكواتي النوفرة أضفى على أحلامي الكثير من الملامح الواقعية. بسببه لم يعد هناك فرق لدي بين أن نعيش الواقع ونحلمه”. يُقال إن النوفرة وهو أقدم مقهى في دمشق يعود تأسيسه إلى ما قبل 500 سنة. حكاية لم يتم التثبت من صحتها غير أنها مثل باقي حكايات المدينة العريقة قابلة للتصديق بسبب سحرها. فدمشق ليست مدينة واحدة. إنها مجموعة من المدن التي قام بعضها فوق البعض الآخر. هناك مواقع في سور المدينة القديمة تكشف عن تنوع الحضارات التي قامت واحدة فوق الأخرى من أجل أن تكون دمشق موجودة عبر التاريخ. غير أن للحياة الدمشقية قانونها الخاص الذي يميل إلى التجدّد ويرفض القدم. لم تكن الحياة في دمشق القديمة تشي بأي نوع من العتق والرثاثة والاندثار. ابتسم من أجل اللانجيري وبائعه الشيخ في سوق الحميدية وأتنفس هواء نقيّا وأنا ألمس الحرير في متجر صغير. لذلك كان من الصعب علي أن أصدق أن عمر مقهى النوفرة يبلغ مئات السنوات. لم يكن مكانا للأمس بل هو مكان الحاضر الذي كانت شمسه تضطرنا إلى الزحف في اتجاه ما تبقى من ظلال. نافورة أحلام انتظرُ. أجلس كما لو أني أنتظرُ. لا أحد يسألك مَن وماذا تنتظر. الجلوس في النوفرة طقس لا علاقة له بالانتظار. طقس دمشقي قبل أن يكون طقسا لزوار دمشق الذين لم يكونوا غرباء لشدة ألفة ناسها. غير أنني كنت انتظر أن يقع شيء ما. كأن تنبعث من جديد مياه النافورة التي اكتسب الحي الصغير الذي تقع فيه المقهى اسمه منها. “لقد جف نهر يزيد منذ خمسين سنة فاختفت البحيرة” يقول صاحبي “وبقيت نافورة أحلامها على هيأة مقهى” أقول له. حين لا أجد مكانا فارغا في الجزء الخارجي من المقهى وهو صغير إذ تبلغ مساحته 30 مترا مربعا لا أغادر المكان يائسا وفي قلبي غصة بل أجلس على السلم الحجري الذي يقود إلى الجامع الأموي في انتظار مَن يغادر من زبائن المقهى وقد يطول انتظاري.مواقع في سور المدينة القديمة تكشف عن تنوع الحضارات التي قامت واحدة فوق الأخرى من أجل أن تكون دمشق موجودة عبر التاريخ لم تكن جلستي تثير اهتمام أحد. ذلك لأن هناك الكثير من الجالسين من حولي. وهو أمر مألوف بالنسبة للعابرين. ذات مرة فيما كنت جالسا على السلم أقبل صاحبي الرسام ولم أكن على موعد معه فرآني جالسا من غير أي حركة. وقف أمامي ضاحكا وهو يقول “يبدو أنك تدربت طويلا على الانتظار حتى صرت أشبه بتمثال”. كنت في الحقيقة أحلم مستيقظا. قبل 500 سنة قرر حالم مثلي أن يشيّد مقهى في المكان الأكثر جلبا للأحلام في مدينة الشعراء. في يومي الدمشقي الأول طلبت المعذرة لأنني كنت نصف نائم. غير أن شهرا قضيته في دمشق لم يخرجني من المنطقة التي تقع بين اليقظة والنوم. كان حكواتي مقهى النوفرة واحدا من أهم الأسباب التي أبقت الأبواب مفتوحة بين العالمين. الطقس نفسه، أقصد الجلوس الجماعي لسماع حكاية يرويها رجل محترف عجنت خبرته سنوات من التحليق في مرايا عيون لا ترمش، ذلك الطقس هو باب للنوم المغناطيسي. كنت أشعر أن “أبو صبحي التيناوي” يجلس إلى جانبي. رسام الحكايات الدمشقي كان هو الآخر حكواتيا. كانت خطوطه وأنا أرى رسومه في الأماكن العامة تغمرني بالسعادة. هو ذا عالم سعيد يبصر النور ليُحل الحقيقة محل الوهم. ينطلق الحكواتي على سجّتيه فكان كمَن يطلق طيورا مدرّبة على العودة إلى أقفاصها. كان هناك محاربون وعشاق وحساد وزهاد وشعراء ومتصوفة ناسكون ووزراء يمشون في الدرب مستظلين بالليل وصيادون وحوريات بحر وحقول شاسعة من الزعفران وكان الياسمين حاضرا كما لو أنه الرقية التي تجلب الحظ. في مقهى النوفرة عثرت على وصفة جاهزة للسعادة.
مشاركة :