دمشق- في تأصيل للحالة الأدبية والمسرحية خصوصا في تاريخ منطقة الشام، تغدو حالة الحكواتي لدى بعض الباحثين ظاهرة تحمل مقومات خاصة في نسيج المجتمعات المحلية تحديدا في مقاهي دمشق. ففي مقهى النوفرة الشعبي الذي يكاد يلاصق الجامع الأموي الكبير، (يبعد عن بوابته ما لا يزيد عن عشرة أمتار) توقف الزمن بالنسبة لطقس الحكواتي، ولياليه العاصفة بأحداث السير الشعبية القديمة كالسيرة الهلالية، وعنترة بن شداد والظاهر بيبرس. لم يبق من مهنة الحكواتي في مقاهي دمشق إلا ما ترويه القصص والكتب التاريخية وبعض المسلسلات السورية التي تقدمه على أساس أنه منشط سهرات المقاهي الوحيد في الأزمنة القديمة قبل أن تنتشر التلفزيونات والانترنت وغيرها من تكنولوجيات التواصل، لكن في الواقع لا يزال أحمد اللحام يعتلي كرسيه في مقهى النوفرة ليروي قصص الزير سالم وعنترة والظاهر بيبرس لمن ظل متعلقا بالحكايات التاريخية مقهى النوفرة الذي سمي كذلك بسبب نافورة ماء قريبة كانت موجودة، يسميه البعض في دمشق بشيخ المقاهي في الشام، لا يعرف تماما متى بني، لكن عمره كمكان يتجاوز الثلاثمئة عام، وهو بحكم قربه الشديد من الجامع الأموي، يكتسب حالة خاصة للرواد الذين يتابعون بتشوق حركة الناس أمامهم، خاصة السياح، ولكن المقهى المليء بالذكريات، يمتلك عنصرا آخر أكثر تشويقا، وهو الحكواتي، الذي يرى صاحبا المقهى ديب وصالح الرباط أنه حالة تراثية يجب أن تبقى موجودة لكي يعرف أبناؤنا كيف كنا نتعلم ونسمع قصص الأبطال والأقدمين. الحكواتي جزء من تاريخ المدينة، وتحديدا هذا المقهى العتيق، فمهنة الحكواتي فيه متجذرة وتعود لأيام بعيدة في دمشق ومقاه في عموم سوريا. في مقهى النوفرة وعلى سير الحكواتي، كان رجال دمشق القديمة يجتمعون قادمين من القيمرية والبزورية والسنجقدار والقباقبية وباب سريجة وغيرها، حتى يسمعوا قصص عنترة وغيره، وكثيرا ما كان يحدث أن يتلاسن ويتشاحن البعض من الرواد مع بعضهم نتيجة تفاعلهم الناري والساذج مع أحداث هذه القصص الشعبية. يكتب المؤرخ والباحث السوري قتبية الشهابي في كتابه “دمشق تاريخ وصور” عن بعض ما كان يجري في مقهى النوفرة، عندما يتابع الرجال قصص الحكواتي، “كانت القيامة تقوم في مقهى النوفرة إذا أنهى الحكواتي قصة عنترة بن شداد وأنهى كلامه وابن شداد في السجن وكم من رجل قرع باب هذا الحكواتي في منتصف الليل مطالبا إياه بتحرير البطل وفك أسره قبل طلوع النهار، وإلا فيضطر المسكين إلى متابعة القراءة حتى يطلق سراح عنترة”. أما عن قصة الزير سالم فيقول “وكم من مرة كانت فيها الملاسنة تحتدم بين المتحزبين للزير سالم وآخرين لجساس، الأمر الذي ينتهي عادة ببضع صفعات ولكمات ويذهب عدد من الكؤوس والكراسي ضحية ذلك”. لم تعد هذه الحالة موجودة في حياة الدمشقيين كحالة اجتماعية يومية، بل صارت جزءا من حالات الحنين للماضي، حيث يحرص عدد من الرجال على أن يرتادوا هذا المقهى الذي يصر على وجود الحكواتي رغم كل التغييرات التي تعيشها المدينة العاصمة السورية. ليس بمقدور أي شخص أن يكون حكواتيا ناجحا، فالأمر يتطلب موهبة خاصة وحضورا لافتا، إضافة إلى الصوت الجهوري الذي يجب أن يصل إلى كامل مساحة المقهى، واستخدام أجهزة تكبير الصوت مرفوضة. الحكواتي الناجح يجب أن يكون حاضر البديهة عالما بتراث شعبه ومدينته، وصاحب سطوة على الحضور، فكثيرا ما يعلق أحدهم على حدث ما أو جملة محددة في القصة، وهذا ربما يستفز شخصا آخر أو الحكواتي نفسه، مما يجعل الحكواتي في موقف الباحث عن حل فوري قبل استفحال الأمور لشر ممكن. هذا ما يقوله آخر حكواتي في الشام الآن أحمد اللحام والملقب بـ”أبوسامي” الذي يعمل في مهنة الصدف في حي باب شرقي في دمشق القديمة نهارا، أما ليلا فإنه يأتي إلى مقهى النوفرة ، حيث يرتدي الطربوش، ويمسك بالسيف، ويخرج إحدى القصص الشعبية ليبدأ القراءة للناس بعد صلاة المغرب وحتى قبيل صلاة العشاء. يقول أبوسامي عن السبب في تعلمه هذه المهنة وتعلقه بها “كان خالي أبوشاكر سنوبر حكواتيا في المقهى، وكنت آتي معه عندما يأتي لرواية القصص في النوفرة، وكم ذهلت بالأجواء التي كنت أراها في المقهى، فهنا كان يأتي علية القوم، يجلسون يحتسون الشاي والقهوة وبالطبع يدخنون الأركيلة، وتدور الأحاديث المختلفة بينهم، ثم يأتي الحكواتي، فيتابعه الجميع باهتمام وتشوق. لكن مع مرور الأيام، ودخول الكثير من التغيرات في حياتنا، غابت مهنة الحكواتي، ورحل الحكواتية عن دنيانا واحدا تلو الآخر، وبقيت الآن وحيدا في هذا المقهى، الذي يصر أصحابه على التمسك بهذه المهنة، وها أنا أعمل هنا محافظا عليها ما أمكنني ذلك”. وعن ضرورة ثقافة الحكواتي وعلمه خاصة بالتاريخ، يقول “بالتأكيد يجب أن يكون عالما بذلك، لأن الرواد سيوجهون أسئلة وهم يستمعون، بعضها ستكون مباغتة وربما مستفزة، خاصة عندما تتعلق بشخصية تاريخية محددة، فيجب على الحكواتي أن يجد جوابا فوريا من التاريخ ذاته يرد به بشكل مفحم على السؤال”. يبدو صالح الرباط أحد صاحبي المقهى متمسكا بوجود الحكواتي فيه حتى آخر لحظة، فهو مقتنع بأن هذه المهنة لا يجب أن تندثر. يقول “في هذا الوقت هنالك الكثير من وسائل التسلية والمتابعة، أحفادي في البيت يتابعون بشغف على بعض مواقع النت البرامج والمسلسلات على أجهزة الهواتف الذكية، هم أبناء عصرهم وأنا لست ضد ذلك، لكنني جئت ببعضهم هنا، وكم كنت مسرورا عندما أحبوا المكان ومتابعة الحكواتي.. الحكواتي جزء جميل من تراثنا، وسوف أدافع عن وجوده ما دمت حيا”.
مشاركة :