تأتى لمكة المكرمة ما لم يتأت لغيرها من المدن والعواصم العربية والحواضر الإسلامية من حيث الكتابة عنها تاريخياً وثقافياً وجغرافياً واجتماعياً ومثلما شرفها الله بجلالة المكانة وعظمة القداسة، تشرف المؤلفون بالكتابة عنها، وقد صُنِف عنها عشرات المصنفات ممن فتح الله به عليهم، ولو تأملت ما كتب عنها لوجدته يضم كل ما حوته هذه المدينة الطاهرة، فقد كُتِب عن الكعبة المشرفة والمسجد الحرام وماء زمزم وأوديتها وشعابها وجبالها وأوقافها وآثارها الخالدة وترجم لرجالاتها من علماء وزهاد وعباد وحكام وقضاة وأئمة ومحدثين وشعراء وأدباء، منذ فجر الإسلام حتى هذا العصر، فلا غرابة إذاً أن يخرج كتاب يعرض لأزقتها ويتقصى سبلها وهذا ما قام به الباحث المكي الكاتب عبدالله محمد أبكر الذي أصدر مؤخراً كتاب "أزقة مكة صور وحكايات من عبق التاريخ" طاف من خلاله أزقة أم القرى وتتبع مداخلها ومخارجها وإلى ماذا تفضي، ذاكر أبرزها ومعللاً تسمياتها. يقول المؤلف في معرض مقدمته: وقد رأيتني أن أنقل أسماء بعض هذه الأزقة دون الدخول في تفاصيل وتحديد أماكنها، وأكثرها من الأزقة الخاصة والصامتة، إذ الهدف والمنهج الذي رسمته في كتابي هذا هو وصف الأزقة العامة والمتحركة بصفة خاصة والمشهورة في حارات وأسواق مكة والتي دأبت على الحركة يومياً وذاع صيتها محلياً وخارجياً، وكانت ذات أهمية اجتماعية واقتصادية وتاريخية. وقد اشتمل الكتاب على استهلال علمي حول هذه الأزقة ومنافعها الاقتصادية ومكوناتها الاجتماعية ودورها التاريخي وأشكالها العمرانية وطبيعتها التي صبغت الناس عليها وما شكلته من عمق في العلاقات بين الناس وتوزيع الأدوار بينهم، إلى جانب ما خلقته هذه الأزقة من ترابط وتراحم وتحابب بين قاطنيها وتأكيداً لذلك ما ذكره الأستاذ عبدالرحمن متولي في تقديمه للكتاب من تفصيل دقيق ودراية يعتمد عليها في أسماء وأماكن هذه الأزقة يقول متولي: إن تلك الأزقة لا تزال محفورة في الذاكرة والخيال وحاضرة في قلوب من عشقها وعاصرها وتربى في أحضانها وعلى ترابها وداخل دورها ورواشين تلك الحارات الأصيلة والجميلة بسكانها. الكتاب نهض على توطئة وثلاثة أبواب ورأى المصنف أن يقدم لكل باب لمحة تاريخية ومبرزاً دور الزقاق في تكوين الحياة الاجتماعية بمكة المكرمة وما يغرسه من تقدير واحترام متبادل بين سكانه وبث أخلاقيات حسن الجوار. توحي الأزقة المكية بأهمية القيم والعادات التي كانت سائدة بين ساكنيها وكيفية ممارستهم لحياتهم وطريقة معيشتهم، كما يذكر المؤلف علاقة الأزقة بالشعاب لكون الشعاب في مكة تعد نقطة الانطلاق الأساس في تكوين المنظومة السكانية التي ملأت الحارات والأزقة والبيوت. أما تعريف الزقاق فهو الطريق الضيق دون السكة وجمعه أزقة وتأتي الأزقة متعرجة ومنها ما ينفذ ومنها المغلق ومنها ما يفضي إلى شارع أو بَرَحَة ويتراوح عرضها ما بين مترين إلى خمسة أمتار كحد أقصى وهي من صميم البناء العمراني المكي الذي ذهب ضحية التجديد والتحديث دون النظر لقيمته التراثية. هذه وقد كان الباب الأول عن الأزقة المتحركة وهي التي تحكى حياة الناس اليومية والتي تضم زحامهم وصخبهم وتعكس حركة التبادل التجاري بينهم وكذلك تنصت إلى أحاديثهم الجانبية ومن أبرز هذا النوع من الأزقة: زقاق البرسيم الذي تأتي أهميته من أهمية (المقاضي) اليومية لاسيما الشعور الإنساني تجاه الحيوان ذلك أن أغلب الناس لديهم في بيوتهم دواب لركوبها أو لأكلها فلابد من المرور شبة اليومي من هذا الزقاق لشراء البرسيم والعلف والحبوب وتتميز رائحة هذا الزقاق برائحة المزارع. ومن الأزقة الشهيرة أيضاً: رقاق الكرات الذي يباع فيه الكرات (الكراث) على صفين من امتداده وتجد فيه من المبيعات البيض والدجاج والسمن والعسل وغيرها من السلع، كما أن هذا الزقاق له شأن هام لأصحاب المزارع، فهو مقصدهم لبيع الكرات وباقي المنتجات الورقية، ويدخل الكرات في عدد من تجهيز الأطعمة كالمطبق والعيش أبو اللحم والمقلية ومربي الدواجن. أما زقاق العطارين الذي تفوح منه أزكى الروائح التي تنبعث منه العطور الشرقية التي عرفتها مكة وهو مقصد لكثير من الحجاج والعمار ناهيك عن أهل مكة ويضم هذا الزقاق أيضاً عدداً كبيراً من الأعشاب ومركبات العلاجات التي توصف للمرضى فهي محلات أشبه بالصيدليات في عصرنا الحاضر. وأختم بالأزقة المتحركة – وإن كانت كثيرة – بزقاق الصَّوَغ وبه مقرات بائعي الذهب والفضة وأكثر مرتادوه من النساء المكيات للبيع أو الشراء أو لتجهيز العرائس لما يضمه من أسوار وبناجر وخواتم وأخراص وسلاسل مشغولة بدقة ومهارة ومزينة ببعض الأحجار الثمينة. ويدخل ضمن هذه الأزقة المتحركة أيضاً: زقاق الكوافي وزقاق الحدادين وزقاق البيض وزقاق الشِِّيَشْ وزقاق الجزارين وزقاق المهراس وزقاق الوزير وزقاق الخياطين وغيرها من الأزقة. ويسرد المؤلف أبكر ما يميز أزقة الأسواق عن غيرها من الأزقة فهي تعج بالحكايات ذات الطابع الإنساني وقصص الأخبار والنوادر التي تبعد الملل بين أصحاب المحلات، وتجد بين المارة في الأزقة (الزمزمي) بزيه التراثي الذي يقدم ماء زمزم لروادها وكذلك تسمع خطى (السقا) وهو حامل (زفته) ليدلقها في براميل بعض البيوت التي تطل على هذا الزقاق أو ذاك إلى جانب (الحمالين) الذين يعهد إليهم توصيل بعض المشتريات والبضائع إلى بيوت أصحابها. في حين يأتي النوع الثاني من الأزقة تحت اسم الأزقة الصامتة وهي أزقة خاصة بأصحاب البيوت الموجودة فيها وهي قليلة الحركة قياساً للأزقة المتحركة وبعضها لا ينفذ إلى مكان عام بل متراوحة في حدودها وتؤدي مباشرة إلى بيت المنسوب إليه وهي تبدو في أعين الأطفال كبيرة رغم ضيقها وتنشب بين بعضهم مشاجرات سرعان ما تنهيها أصوات الكبار، وهذه الأزقة تفيض روحانية في رمضان الكريم ويكثر بها المارة وهم غادون أو رائحون إلى المسجد الحرام لأداء الفروض وصلوات التراويح والتهجد. ومن أبرز هذه الأزقة؛ زقاق السبع الملفات وبه ملفات ملتوية لمن اتجه شرقاً نحو حارة القرارة أما الساكنين فيه فهم حسب كل لفاته ففي اللفة الأولى والثانية تجد بيوتات آل الطيب وآل ملائكة وفي اللفة الثالثة تبرز بيوتات آل الجمبي وآل الفيزو، أما اللفة الرابعة فيقطن آل الفخراني، في حين يسكن آل المنصوري في اللفة الخامسة وفي اللفة السادسة يأتيك بيت التونسي وبيت السمباوة وفي اللفة الأخيرة تجد فرن القهدي وحوش الصيرفي. أما أشهر أزقة هذا النوع فهي زقاق الغريب وزقاق الحفرة وزقاق صدقة برحلو وزقاق سامي وغيرها من الأزقة، أما ما يميز الأزقة الصامتة عن غيرها، فهي الألعاب التقليدية القديمة مثل الكبوش والبربر والبرجوه ودف الجنط والكرة المصنوعة من الجوارب، كما تجد بعض الشويهات والمعيز تساق إلى بيوت ساكني هذه الأزقة، كذلك تجد عربات بائعي البليلة والدندرمة والمنفوش التي يتحلقها أولاد بيوتات هذا الزقاق أو ذاك حولها. وآخر أنواع هذه الأزقة هي الأزقة العامة: والتي لابد لعامة الناس من الولوج والمرور فيها لما تضمه من خدمات ضرورية ومن أهمها: زقاق الجنائز ومنه تمر الجنائز بعد الصلاة عليها في المسجد الحرام وهو آخر زقاق يمر به الميتون، بل لا يخطر بمن يمر في هذا الزقاق سوى الحِمام وذكرى من رحلوا عنه من الأهل والأقارب والأصدقاء والجيران ولا تسمع هنا صوتاً يرتفع غير (وحدوه.. وحدوه) وهم يحملون على أكتافهم النعش مسرعين به نحو مثواه الأخير في المعلاة. ومن الأزقة العامة أيضاً: زقاق الحجر والذي كان به حجر يسلم على رسول الله صلى الله عليه وسلم حين يمر به وهو المؤدي إلى دار السيدة خديجة رضي الله عنها والذي سكنه النبي الكريم قبل هجرته إلى المدينة المنورة، كما كان في زقاق الحجر أيضاً بيت سيدنا أبي بكر الصديق رضي الله عنه. وللأزقة دور في ترسيخ روابط المحبة والتقدير ويظهر ذلك جلياً في زقاق عانقني الذي لا يسمح فيه المرور لأكثر من شخصين فالمتقابلان فيه بلا موعد لابد لهما من عناق يوطد مشاعر الجوار بين ساكنيه والعابرين من خلاله وقد يتعذر العناق في حالة أن يكون أحد الشخصين أنثى فالحياء حتما سيكون سيد الموقف. وهناك أزقة عامة أخرى مثل زقاق القلعة وزقاق الصولتية وزقاق البازان وزقاق الرمادة وزقاق النار وزقاق النجس. ولم يغب عن المؤلف أبكر أن يشيد بالزمن الجميل الذي كانت به هذه الأزقة حيث حضور الكثير من الآداب والعادات التي عرفت بها مكة المكرمة وما ساد بها علاقات حميمة بين سكان الزقاق من روابط الجيرة والقرابة والاحترام المتبادل بين أهلها. وقد زود الكاتب عبدالله أبكر كتابه بالعديد من الصور القديمة لأزقة مكة المكرمة وبيوتاتها العتيقة وأسواقها الشهيرة. هذا وقد كانت لغة الكاتب في صفحات هذا المؤلف تحمل كثيراً من الرثاء لذلك الزمن الذي مضى وأصبح يقبع في ذاكرة المكيين ومقدماً الاعتذار لهذه الأزقة بعد أن نالت منها الجرافات والبلدوزرات دون رحمة بقسوة معلنة دك هذه الشواهد الإنسانية الجميلة بكل ما تضمه من معاني التلاحم والتراحم.. التي راجت بين سكانها.
مشاركة :