د. يسري عبدالله يكتب: متطرفون وقتلة

  • 5/14/2020
  • 00:00
  • 2
  • 0
  • 0
news-picture

في مناظرة حاشدة تخللتها جوانب موضوعية، وأخرى ديماجوجية، بدت محملة بالمعرفة تارة، وبالميتافيزيقا تارة أخرى، كان ثمة سجال فكري دال ما بين المفكر فرج فودة، والشيخ محمد الغزالي، انتهت المناظرة، وقتل بعدها فرج فودة، على يد أحد المتطرفين من أدعياء الحقيقة المطلقة، وحين سئل القاتل: لماذا اغتلت فرج فودة؟ رد باقتضاب وثقة: لأنه كافر، وحينما سئل: كيف عرفت أنه كافر؟ ومن أي كتبه استنبطت ذلك؟ قال: أنا لم أقرأ كتبه. أنا لا أعرف القراءة ولا الكتابة. أنا أسمع فقط.وحينما خرجت الجموع الحاشدة في جامعة الأزهر رفضا لرواية الكاتب السوري حيد حيدر "وليمة لأعشاب البحر"، التي كانت قد طبعت مرة ثانية في مصر، سئل بعض الطلاب: هل قرأتم الرواية؟ قالوا: لا، لكن شيخنا قال إنها تحض على الكفر، أما اللافت حقا فيتمثل في أن الرواية كانت مثار مزايدة آنذاك في مجلس الشعب، أما مفجرو الكارثة الثقافية/ السياسية فكانوا جملة من الحمقى الذين يصادرون الإبداع، ويسعون إلى تكميمه، منطلقين من تصور ماضوي قديم لم تعرفه الكتابة يوما، فيرون أن للعمل الأدبي دلالة نهائية وواحدة، وينفون عنه أنه حمال أوجه، ودلالات مختلفة ومتعددة، ووصل الأمر إلى حد أن طلب أحد متثاقفي الإسلام السياسي من قراء مقاله المسكون بالكراهية والتحريض وقتها "المبايعة على الموت"!!، وتحولت قضية الدلالة الأدبية إلى قضية للحلال والحرام، وأصبح التفكير ضربا من التكفير، وصار الحكم الأخلاقي بديلا عن الحكم الفني. وكان ذلك جوهر الكارثة.وبينما كان الكاتب الاستثنائي الفذ نجيب محفوظ يدافع بإباء يليق بالكتابة والإبداع عن روح الكتابة المصرية والعربية، وتتواتر الترجمات لمزيد من اللغات الحية عن أعماله السردية الفارقة، ويكتشف العالم جميعه والنقد الأدبي في متنه التحولات الجمالية والفكرية في مشروعه الإبداعي بالغ الفرادة والتنوع، يأتي شخص لم يقرأ له شيئا ليطعنه في يده، تلك الطعنة النافذة صوب الروح والجسد معا، فاليد التي قدمت لنا انحيازا نبيلا لقيم الحق والخير والجمال، ولكل المقولات الفلسفية والإنسانية الكبرى، تلقى هذا المصير المأسوي، وحينما يُسأل المجرم المتطرف: لماذا فعلت ذلك؟ يرد: لأنه كافر وخارج عن الملة. ثم يتعلل مبررا حكمه الدموي العبثي برواية الأستاذ الفاتنة: أولاد حارتنا، فيسأل من جديد: هل قرأت أولاد حارتنا؟ فيرد بكلمة واحدة: لا.ولم تكن قضية المفكر الدكتور نصر أبوزيد ببعيدة عن هذا السياق جميعه، خاصة أن قمع الباحثين المستنيرين داخل النطاق الأكاديمي والعلمي بدأ مبكرا، وظلت البداية الأكثر دلالة متمثلة فيما تعرض له الأكاديمي والمفكر الأبرز الدكتور طه حسين جراء كتابه الجاد: " في الشعر الجاهلي"، والذي قدم بسببه إلى المحاكمة، وتعرض بسببه لحملات مسعورة من داخل الجامعة وخارجها، ووصل الأمر إلى مجلس النواب آنذاك، ودعت القوى المحافظة والرجعية إلى حتمية محاكمته وفصله من الجامعة، ولم يخل الأمر من أنصار تنويريين بحق، كان من أبرزهم المفكر أحمد لطفي السيد، أما المرافعة التي قدمها السيد وكيل النيابة محمد نور في تلك الآونة، فكانت تعبيرا خلاقا عن حيوية الأمة المصرية، حيث طرح خطابا عقلانيا منهجيا بامتياز، يدرك معنى الحريات الأكاديمية، وحرية البحث العلمي، وحرية التفكير من قبل ومن بعد.ربما تختلف الحوادث السابقة في بعض تفاصيلها، مثلما تتشابه، وإن كانت جميعها تسري داخلها روح واحدة، روح تكشف عن أن تفشي الأمية الفكرية، والولع بالتراث وتقديسه، وتمجيده إلى حد الخوف من قراءته على نحو مغاير وجديد، وتسييد ثقافة السماع، والانطلاق من أن ما كان ليس قبله ولا بعده شيء، على اعتبار أن أفضل العصور ما خلفه السابقون، هذا المناخ الفكري العام واجه كل مفكر مجتهد يسعى صوب التأسيس لخيال جديد، ولوعي مختلف يقرأ من خلاله اللحظة الراهنة، ومن ثم بدا المنع سلطة، والمصادرة فضيلة، وصار كل شيء خاضعا للسلطة الدينية، التي لم تعد تمثلها مؤسسة بعينها، بل توزعت ما بين الجماعات الدينية المتطرفة، والمؤسسات الرسمية الجامدة، والمتثاقفين الجهلة الموزعين في الطرقات، والمنتشرين بيننا الآن على نحو يعلي من مبدأ ( التقية)، الذي يتبناه مشايعو الإخوان والمتعاطفون معهم من كارهي الدولة الوطنية والواقفين في خندق أعدائها على نحو مباشر أو غير مباشر.وبعد.. في لحظة فارقة ومفصلية من عمر الأمة المصرية، تبدو فيها التحديات السياسية والاقتصادية والاجتماعية جسيمة ومهمة، غير أن التحدي الفكري والثقافي يظل تحديا بالغ الأهمية، ولذا تبقى الحاجة ملحة إلى بلورة خطاب ثقافي/ فكري جامع، وهذا الخطاب بدوره يمكن له أن يعضد خطاب التقدم والاستنارة والإبداع الذي يجب أن تدرك الدولة أنه خطابها المركزي للدخول في جوهر العالم الجديد، إننا لن نعيد اختراع العجلة، ولن نقاوم حركة التاريخ في اندفاعها صوب الأمام، ومن ثم فإن تهيئة المناخات الداعمة لحرية التفكير والنقد والمساءلة تعد أسسا راسخة لدولة حديثة، ابنة قيم التقدم، والمواطنة، والتنوع الثقافي الخلاق.

مشاركة :