ليس من شك عندي في أن سنوات الفرز لم تزل مستمرة، وربما ستطول الوقائع والأحداث أكثر لتكشف عن معادن البشر، وتعري الأرواح الصغيرة التي لم تزل تدافع عن الغازي العثمانلي، وتعتبره نموذجا ومثالا، ستكشف السنوات المقبلة عن كل الأوراق المبعثرة في المنطقة منذ عشر سنين تقريبا، وسيكون الكشف مزلزلا أكثر لكل الذين أسهبوا في الحديث عن مفاهيم الدولة الرخوة، والفاشلة، وغيرها من المسميات التي اتخذت غطاء نظريا يتسم بالخفة والقشرية، وتم استثمارهما كثيرا من الآلة الإعلامية المعادية للدولة المصرية، لتبيت صورة ذهنية في الوجدان العام للجماهير تغاير تلك الصورة المستقرة عن دولة عميقة المعنى والمبنى.في كتابه المتلاعبون بالعقول يسائل هربرت شيللر مجموعة من المسلمات التي درج العقل العام على التسليم بها، مثل أسطورة الحياد الإعلامي، وانتفاء ماوراء الخبر، فكل خبر له سياقه، وهذا السياق يعتمد على تأويل يختلف من شخص إلى آخر، ومن مجموعة اجتماعية إلى أخرى وهكذا. ولذا فإن التضليل الإعلامي الذي تمارسه القنوات المعادية للدولة المصرية وتدعمه اللجان الإليكترونية التي تنهض على مواقع التواصل الاجتماعي ليلا ونهارا، وتبث الشائعات وتروج لها بدم بارد، وتسعى لخلق حالة من الاحتقان والفوضى والقلق المستمر وتيئييس الجماهير ودفعها لفقدان الأمل والرضوخ لمنطق العجز وكراهية العالم والميل إلى الكآبة والوحدة وليس العزلة، وتصدير الشحنات الانفعالية والطاقات السلبية للآخرين باستمرار، وهذا التزييف بمفرداته ومظاهره المختلفة عمدي للغاية، وليس عابرا أو مجانيا.في أثناء ثورة يناير 2011، كان عزمي بشارة، وهو نموذج دال في هذا السياق، يخرج منتشيا بتحليلاته الجازمة القطعية التي تنتفي وروح المنهج العلمي المعتمد على التصورات النسبية، انطلاقا من عدد من الفرضيات النظرية، وعدم القفز من خلالها على النتائج التي تكون لدى بشارة وأعوانه محددة سلفا، مثل وصفة سابقة التجهيز، تعد في معامل استخباراتية تعرف ما يسمى بموظفي الأيديولوجيا الذين يجدون ما يعينهم على تقبل واقعهم المتناقض وكلامهم المهترئ وتصوراتهم الغارقة في التزييف، فتتحدث عن الديمقراطية وأنت تقتات على أشد الأنظمة ديكتاتورية، وهو النظام القبلي، كأن تتحدث عن حقوق الإنسان بينما تدافع عن التنظيمات الإرهابية التي تقتل الإنسان ذاته، أن تشير إلى التقدم وأنت تدعم الجماعات المتطرفة!. وليس هذا التناقض جديدا أو يخص حالة فردية بعينها، لكنه تناقض يخص كل الطائفة الجديدة من صانعي الأكاذيب، ودعاة انسلاخ الوطن والانقضاض على جسده المترامي، تارة من الشرق وتارة من الجنوب وتارة ثالثة من الغرب. ويتحول فاقدو المعنى إلى منظرين وملهمين لحمقى وصغار في الداخل، يدينون بالولاء للتنظيم، الذي يغير من تكنيكاته دائما، مستخدما سلاح التقية والتخفي والمداراة، والانحياز الفاجر للمحتل العثماني، الذي يسعى لالتهام جزء أصيل من مكونات عالمنا العربي الذي يعاني تشظيا غير مسبوق، في محاولة ستتحطم لا محالة على صخرة القلب الصلب، والقوة الناعمة الحقيقية، والدبلوماسية ذات الوجوه الذكية.تحكم الغازي العثمانلي مرجعيتين أساسيتين، إحداهما تحيلك على الفور على تاريخ الاستبداد الإمبراطوي للدولة العثمانية بفظائعها الدموية، وحروب الإبادة التي شنتها سواء في قلب أوروبا، أو في عالمنا العربي، أما المرجعية الثانية فتمتد إلى خطط التنظيم الدولي للإخوان، المرتبط في جوهره ببعض القوى الكبرى في سياق سعيها للسيطرة على العالم، وفي إطار التحالف بين قوى الاستعمار الجديد وقوى الرجعية التي تستخدم بوصفها مخلب قط لتفتيت الهويات الوطنية، ومسمار مثبت في البناء الاجتماعي من أجل خلخلته في أية لحظة.في هذه اللحظة الفارقة من عمر الدولة المصرية، وكل شيء على المحك، حيث ثمة تحديات جسام تخوضها الدولة المصرية بكافة طاقاتها وبإخلاص وذكاء، عبر ملفات سد النهضة وليبيا والاقتصاد والوباء وغيرها، يخرج مجموعة من المتسولين ليمتدحوا الغازي العثماني، ويمجدوا في فخر التنظيم الدولي، وبما يحيلك على الفور لرواية جوزيف كونراد العميل السري التي خرج فيها من أجواء حميمة وإنسانية بطلها دائما بحاره العجوز "مارلو"، وإذا كان البحث عن (العاج) في رواية كونراد الأشهر "قلب الظلام" محاولة لاستكشاف الإنسان المقموع بفعل العنصرية والتمييز، فإن العميل السري لم يكن سوى شخص يضع نفسه في خدمة فكرة غوغائية أيا كانت، تستولي عليه، وتحيله إلى مهووس بها، فيفعل أي شيء في سبيلها، فالبطل المركزي في الرواية (أدولف فيرلوك)، ينخرط في جماعة فوضوية، وحينما تقوم إحدى المنظمات الإرهابية بتفجير مرصد جرينتش يسعى للتأثير غير العادل في سير التحقيقات التي تجريها السلطات حول الانفجار، أما زوجته الوديعة التي تستنفرها تناقضات زوجها، وشبكة العلاقات الاجتماعية المحيطة بها وبأخيها المريض، فتبدو جميعها كاشفة عن عالم ثري فنيا ودلاليا، لكنه يظل على المستوى الإنساني مأزوما بامتياز، يقوده الشر والتوظيف الممنهج للبشر واستخراج أحطّ ما فيهم.أما لدينا فإن الحمقى يضعون أنفسهم دائما في خدمة الرجعية، والتوظيف السياسي للدين، وصولا إلى استخراج أسوأ ما في البشر، حيث تصير الخيانة سلسلة منحطة من المراوغات اللانهائية.
مشاركة :