أصدرت الكاتبة السورية غادة السمان المقيمة في فرنسا، مؤخرًا عملها الروائي الجديد، الذي تدور أحداثه في ستينات القرن الماضي، والذي حمل عنوان «وداعًا يا دمشق - فسيفساء التمرد» عن دار النشر التي تحمل اسمها في العاصمة اللبنانية بيروت. وجاء الكتاب في نحو مائتي صفحة من القطع الكبير. ونوّهت الكاتبة منذ البداية بأن هذه الرواية هي الجزء الثاني من «الرواية المستحيلة» التي صدر الجزء الأول بعنوان فرعي وهو «فسيفساء دمشقية»، كما أهدت السمان روايتها إلى مدينتها دمشق قائلة: «إلى مدينتي الأم دمشق... التي غادرتها ولم تُغادرني، يوم رحيلي، صرختْ في وجهي: (أمطري حيث شئت فخراجك عندي) وإلى الحبيب الوحيد الذي لم أخنه يومًا واسمه: الحرية.. الحرية.. الحرية..». الرواية جاءت في ثمانية فصول، وهي: «إلقاء القبض على حياتي» أو«أنا صخرة في قاسيون»، حيث تركت السمان للقارئ أن يختار العنوان الذي يعجبه ويراه مناسبًا للفصل الأول - حبّي لدمشق يذلّني - مدينة «الهُص الهُص.. العيب العيب» - فَشِلَ زواجي ونَجَحَ طلاقي - من «زقاق الياسمين» إلى «زقاق الجن» - بيروت عاصمة الحرية، ولكن.. - «الرجل الصحْ» في «التوقيت الخطأْ»؟ أو محاولة غير صالحة للنشر - والفصل الثامن والأخير: يا وطني الحبيب لماذا تشردني؟ أفرغ الأسوار اللا مرئية لدمشق، على رؤوس أصابع دموعي - أي واحد من هذه العناوين يصلح وتركت الاختيار للقارئ أيضًا. يتجول القارئ مع غادة السمان في روايتها الجديدة مع عوالم بطلتها التي عاشتها بدمشق. إنها تنتقل لبيروت ومن ثم تقرر الطيران والرحيل بعيدًا بعد أن يتوفى والدها في بيروت. إنها حكايات وقصص دمشقية دافئة تأخذنا معها السمان وهي تسردها من استيقاظها في الصباح لتنسل من السرير مرتدية لباسها على عجل وتحتسي القهوة التي لا يمكنها أن تبدأ يومها من دونها. تغادر البيت بسرعة قبل أن يستيقظ ويتبعها ويستجوبها؟!.. تصف نغمة شخيره الخافت، ولكنه لا يدري ماذا ستفعل.. وحدها (بومتها) الشهيرة تعرف!. ترصد حميمية دمشق بكل مكوناتها ومفرداتها إذ «تمتزج رائحة خريف دمشق الحنون برائحة الأرغفة الحارة الصباحية.. الناس في دروبهم إلى أعمالهم، وأنا ذاهبة للتمدد في «فرني» الخاص!. إنها تتمرد.. تتجول في شوارع دمشق وأزقتها حيث تتداخل أصوات الشارع والأصوات داخل رأسها، إنها تحب رجلاً تريد الزواج منه، وهكذا تقترف الخطيئة الأولى: «الزواج ممن أحب على الرغم من اعتراض أبي على ذلك، علي الزواج ممن تختاره القبيلة وتُناسبها مصاهرته.. إنها فقط البداية فعلي أن أواجه الأدهى، أن أقول لزوجي الليلة.. ليلة عيد ميلادي التي يستعد للاحتفال بها كما تقضي الأصول والتقاليد في أسرته البرجوازية.. علي أن أقول له: إن كل ما بيننا انتهى؟!.. إنه التمرد بفسيفسائه وموزاييكه الذي لا حدود لجنونه وفلسفته الزخرفية اللونية!». وتخلل الرواية مفردات دمشقية تضج بالحنين: «ليس بوسع أحد ذاق ماء «نبع الفيجة» أن يمتلك مناعة ضد الحنين!.. - وعين الفيجة هو مصدر مياه الشرب لسكان دمشق ويقع في غوطتها الغربية بسلسلة سفوح جبال لبنان الشرقية قرب الزبداني - والتسكع في حارات دمشق كباب توما والصالحية والجسر الأبيض وغيرها وفي أسواقها الشهيرة كالحميدية. كل ذلك نقرأه في الرواية مترافقًا مع ألفاظ وأمثال شامية تصرّ السمان على تكرارها في أحاديث شخصيات الرواية، ومنها: نص نصيص وتعني عقلة الإصبع وتقال لمن عقله صغير، وهناك مثلاً علبة الغندرة ويقصد بها بالشامي صندوق الماكياج، الخ... كما يكثر في الرواية ذكر أكلات شامية تراثية مثل بسماشكات وحراق اصبعوا وستي زئبقي وغيرها. ملاحظتان بسيطتان (على الهامش) لا بد من التوقف عندهما. ففي الصفحة 30 من الكتاب تقول: «يهبط الدكتور المناهلي من سيارته في ساحة المهاجرين تحت جبل قاسيون....»، وفي الهامش توضح السمان أن هذه الساحة كانت في الستينات من القرن العشرين خالية من المباني وهي تشرف على مدينة دمشق القديمة وكذلك الجديدة. وفي الواقع المنطقة تقع في سفوح جبل قاسيون وتأخذ تسمية «حي المهاجرين»، وهي منطقة قديمة تتفرع لحارات متعددة وفي نهايتها تقع الساحة المذكورة وتسمى «ساحة آخر الخط» وكانت في الستينات مكانًا للترامواي «وسيلة النقل الداخلي آنذاك وغابت بعد الستينات» في نهاية رحلته من مكان انطلاق في ساحة المرجة، ولذلك سميت ساحة آخر الخط والساحة موجودة كما هي حاليًا حيث تتجمع فيها وسائط النقل الحديثة كما أقيمت فيها مسطحات خضراء وما زالت خالية من الأبنية الحديثة. وتعود السمان لتذكرها في الصفحة 33 شارحة عنها بالهامش بشكل أوضح. كذلك في الصفحة 84 تتحدث السمان عن (فضيلة) التي تتوقف أمام محل بوظة بكداش الشهير في سوق الحميدية القديم وتعرفه بالهامش على أنه بائع بوظة شهير وتعود لذكره في الصفحة 153 من خلال شخصية (زين) و(جدتها) ولكن هذه المرة وفي الهامش تعرّفه على أنه (حانوت مشهور خاص بالمثلجات والحلوى في ذلك الزمان ولعله ما زال إلى اليوم في سوق الحميدية)، وهو بالفعل ما زال موجودًا كما هو واستقطب قبل الأحداث السياح وكبار الشخصيات التي زارت دمشق. في الفصل السادس تأخذنا السمان إلى بيروت عاصمة الحرية، فنجول مع بطلتها (زين) الكاتبة التي يستقبلها ناشر كتابها الأول مع زوجته. ولكنها في الفصل الثامن والأخير تعود للحدود السورية اللبنانية مع نعش والدها الذي تحبه كثيرًا وتوفي في بيروت، وفي مونولوج مؤلم مع الذات، نقرأ: هل تعود لمنزلها في دمشق أم تودع والدها هنا في نقطة المصنع على الحدود تمر الأحداث كشريط من الذكريات الحزينة والسعيدة في دمشق كما تمر حاراتها وأزقتها ومعالمها.. ولكنها تقرر في النهاية أن تطير.. «قررت ألا أقفز إلى الهاوية ثانية، بل أن أكتشف أجنحتي لأطير.. لأطير..».
مشاركة :