لمّا كان شهر رمضان المعظّم موسم الطاعات،والطاعات تتزاحم لانعقاد السوق، وكثرة البضاعة، وضيق الوقت، كان نداء ربّ السوق أيها المتاجرون مع الله: اتَّبِعُواأَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ[الزمر: 55]،حيئذ لا يكون الاهتمام بالمكسب مشغلا للمسلم الكيِّس الفطن عن استدارج الشيطانلأهل الطاعة، واتباعه على أعلى عقبة من عقباته، تلك التي خصّ بها أهل الفضل من الطائعين، وهي: «عقبة الانشغال بالأعمال المرجوحة المفضولة من الطاعات»، فإن في الأعمال والأقوال الصالحات سيدًّا ومسودًا، ورئيسًا ومرؤوسًا، وذروة وسُفْلة، فيُحَسِّن الشيطان للطائع الأعمال المرجوحة في عينه، ويزينها له، ويريه ما فيها منالفضل والربح، ليشغله بها عما هو أفضل منها، وأعظم كسْبًا ورِبْحًا؛ لأن عدو الله الملعون لما عجز عن تخسير الطائعين أصل الثواب، طمع في أن يخسروا كمال الطاعات وفضلها، ودرجاتها العالية، فشغلهم بالمفضول عن الفاضل، وبالمرجوح عن الراجح، وبالمحبوب لله عن الأحب إليه، وبالمرضي عن الأرضى له سبحانه. ولكن أين أصحاب هذه العقبة؟ فهم الأفراد في هذا العالم. ولا ينجي من هذه العقبة الكؤود إلا أن يكون المسلم من قال الله فيهم: مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [النحل: 97] [النحل: 97] وهم أهل البصائر، أهل العلم والعمل، السائرين على جادة التوفيق، الذين يملكون ميزانا يُنْزِلُون به الأعمال منازلها، ويعطون كل ذي حق حقه، المتمكنين من «الموازنة بين الطاعات»، وفهم مراتبها عند الله، ومنازلها في الفضل، ومعرفة مقاديرها، والتمييز بين عاليها وسافلها، ومفضولها وفاضلها، ورئيسها ومرءوسها، وسيدها ومسودها"[مدارج السالكين لابن القيم 1/ 240 بتصرف]. ولنأخذ مثلًا: وهو الانشغال بقراءة القرآن، فقد يستنكر -بعض الأفاضل- على غيرهم الاشتغال بشيء من العلم -غير القرآن- في رمضان، وهذا -برأيي- تصرف جانبه الصواب خصوصًا إذا كان الانشغال بتحصيل العلم؛ فإن مجموع ما ورد عن النبي، إنما هو زيادة الاهتمام بالقرآن، وتكثيف الجرعة القرآنية، بحيث لا يكون: شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ [سورة البقرة: 185]، كغيره من الشهور، عند صف من الطائعي جعل القرآن أنيسه، وورده من القرآن حله وترحاله، ولا يكون إلغاء ما سوى القرآن –خصوصا إن كان من باب مدراسة القرآن، والعلم الشرعي- من باب الانشغال عنه بل من مدارسته. ومستند ما ذهبت إليه فعل المعصوم المنزل عليه قوله سبحانه: إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ * وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ [سورة النمل: 91 - 93]، ومع هذا قد خرج في أكثر من غزوة في شهر رمضان، منها غزوة بدر الكبرى، والفتح الأكبر -فتح مكة- وغيرها، كان ذلك كله في رمضان، ولم نره أجّل ذلك حتى ينصرم الشهر، بل تجلى تنبيهه على نوع من الفقه يكون بين تقديم الأولى والأكبر من الطاعات عند تزاحمها على وقت واحد. ولقد فطن الإمام البخاري –رحمه الله- لهذا المنحى، وبان لذي عينين مدى فقهه عندما بوّب لحديث بقوله في صحيحه: (باب الخروج في رمضان) [صحيح البخاري 4/ 49]، وعلّق البدر العيني في شرحه على البخاري على هذا التبويب بقوله: "هذا باب في بيان جواز الخروج في السفر في شهر رمضان، وفيه رد على من يتوهم كراهة ذلك" [عمدة القاري، للبدر العيني 14/ 219]. وأما ما ورد عن السلف من ترك دروس العلم، والحديث في «شهر رمضان» تحتاج هذه القضية إلى تحرير من جهات أربع: الجهة الأولى: التثبت من النقل عمن ترك دروس العلم، والحديث في «شهر رمضان» من السلف. الجهة الثانية: استقراء المواقف المغايرة لهذا الموقف (وهو من لم يتركها) وذلك بتتبع آثارهم وهديهم. الجهة الثالثة: التأكد من حكاية "التعميم" لما ورد عن البعض على بقية السلف –إن ثبت-، لأن في هذا التعميم إشكال، كما قالوا: «التعميم أول درجات الخطأ». الجهة الرابعة: التفريق بين الاختيار الشخصي، أو الأفضل للحال (وهذا لا يُستنكر) وبين كون هذا الخيار معيارًا ليكون فرقانًا بين المفضول والأفضل، وذلك بمعنى أن اتخاذ المرء لنفسه قرارًا بعدم الانشغال عن القرآن في رمضان يختلف عن جعل هذا الموقف معيارًا يحكم به على بقية المشتغلين. وخلاصة الأمر: أن الذي ينبغي استنكاره في رمضان، إضاعة الوقت في المباحات، وفضول الأعمال والانشغال بها، والتفريط في الطاعة بمعناها العام الشامل للعلم أيضا-، وقلة الاهتمام بالقرآن الكريم، وذلك مفض لضد ما نتكلم فيه، وهو الوقوع في الزور والجهل، والعمل بهما، وعدم صلاح حال العبد في الجُملة. وأما إيقاع طلّاب العلم، والدراسين في الحرج بالتعريض بهم، وكأنهم أتوا بانشغالهم في العلم منكرًا من القول فهذا مُشكل جدا وتوريثه للطلاب أشد إشكالًا، واستدراج على عقبة من عقبات الشيطان فلا بُدَّ للحصيف أن يفطن لها.
مشاركة :