معركة فرض الانضباط تحرج الحكومة المصرية في زمن كورونا

  • 5/16/2020
  • 00:00
  • 1
  • 0
  • 0
news-picture

أدخل كورونا مصطلحات كثيرة على قاموس الحياة في دول مختلفة، وقدم بعض المفردات على أخرى، وابتكر الناس كلمات راجت مع الجائحة، ويستطيع كل فرد الوصول إلى معان ومضامين كاشفة لحجم الهلع الذي ينتاب الجميع، ويتعرف على نماذج الحيرة التي ظهرت على أداء رؤساء وحكومات في أنحاء المعمورة بشأن التعامل مع الإغلاق ومناعة القطيع. لم يعد المنضبطون في مأمن من العدوى التي يمكن أن تنتقل بسهولة من خلال معاملات محدودة، فمن مخاطر الفايروس اللعين أنك لا تعرف من أين ستأتي ضربته الموجعة إليك، فالعزلة وحدها ليست كافية للوقاية والحماية منه، فقد يتسلل من أشياء لا تخطر على بال بشر. عرفت مصر خلال السنوات الماضية سكن "الكمباوند" أو المنتجعات المعزولة والمحاطة بأسوار وبوابات حديدية وحراسات أمنية، تقطنها طبقة من القادرين، في المدن الجديدة على أطراف القاهرة، كوسيلة لتجنب الزحام والصخب والضوضاء، بمعنى أدق تجنب الاحتكاك بالشرائح الشعبية، فغالبية الأحياء الراقية بمصر نشأت على هوامشها وحوافها مناطق شعبية. ولا أعرف هل هو نوع من الاشتراكية والمساواة، أم طبقية بحيث يخدم الفقراء الأغنياء. وخبرت القاهرة هذا النمط، وتعايش المواطنون معه، وربما مثّل أحد إبداعاتها في تصنيفات الديموغرافيا، التي تتجلى معالمها في الصور المختلفة للحياة، بما جعل لها طعما مرا وحلوا معا، حتى دخلت على هذه الازدواجية متغيرات جعلت متلازمة العشوائية والانضباط سائدة ومتباعدة، وقد لا يقف عندها كثيرون، على اعتبار أنها أصبحت أمرا واقعا وعاديا وتم التأقلم معه محليا. وبدت ثقافة الزحام معبرة عن الأولى، والمنتجعات معبرة عن الثانية. مع كورونا، بدأت هذه المتلازمة تتكشف معالمها الاجتماعية والاقتصادية وحتى السياسية بصورة أوضح، وتصبح أكثر عمقا ممّا كنا نعتقد. فالتباعد الذي فرضته الجائحة عزز مكانة وأهمية المنتجعات ظاهريا، غير أنه ليس كافيا لحماية سكانها في الجوهر، لأنهم مضطرون للاحتكاك بالآخر في بعض المعاملات اليومية، ما يرفع الحجاب عن أي حماية صناعية. ففي ظل كورونا الكل في الهم سواء. تزايدت المخاوف خلال الأيام الماضية، فمن يشاهد شوارع وأسواق القاهرة يفقد الثقة في جدوى التباعد الاجتماعي. فالحكومة اتخذت جملة من القرارات الصارمة للحفاظ عليه، لكن فئات كثيرة لم تعتد بها، ويكاد هؤلاء يمارسون حياتهم بشكل طبيعي أو أقرب إلى ذلك. وتتصاعد حدة المعاناة في المناطق الشعبية عندما نجد أن ملامح الحياة تسير بوتيرة عادية، وتقام الأفراح وتفتح المقاهي والمطاعم ويحلو السمر بعد فرض حظر التجوال من التاسعة مساء. والأجهزة الرسمية لا تستطيع فرض قوانينها أو قبضتها على كل هؤلاء. تعلم الحكومة أن هناك خروقات مجتمعية عديدة وتغض الطرف عنها بإرادتها أو من دونها، لأن الحسم يحتاج قوة مادية إذا لم تصلح القوة المعنوية في ردع التجاوزات، لكنها تخشى أن يؤدي الأسلوب الأول إلى مشكلات أعمق، كما أن الثاني يحتاج إلى ثقافة منضبطة وبعيدة عن العشوائية التي اعتادها قطاع كبير من المواطنين ولذلك لن ينصاعوا إلى ضوابطها المحكمة. وقعت الحكومة في مأزق حرج، فهي تخشى عواقب الصرامة وسط ظروف اقتصادية صعبة، وتخاف من تداعيات التفريط فيها، فكل التقديرات تقول إن كورونا مستمر لفترة غير معلومة. واهتدت إلى التعايش بضوابط، أعلنت عنها الخميس، وتتكون من ثلاث مراحل وبنود عديدة. وضعتها وزارة الصحة وهي تعلم أنها لن تتمكن من تطبيقها. فالعشوائية أقوى من إرادتها. ارتضت الحكومة صيغة التعايش بضوابط معينة رسمت حدودها، وإذا انتشر المرض على نطاق أوسع فإنها تتمكن من تبرئة ساحتها باللجوء إلى خطابها الذي ضُرب به عرض الحائط ولم يتم الالتزام بتوجيهاته، وإذا تمكنت من تطويق الجائحة تستطيع التفاخر بأن خارطة الطريق التي وضعتها حمت المجتمع من كورونا. وفي الحالتين ضمنت مبررا قد يخفف وطأة المعاناة. تتجاوز الأزمة هذا البعد بكثير، لأن الرهان الحقيقي يأتي من مقدار الالتزام. والشواهد تشير إلى وجوده عند شريحة وخلوّه تماما لدى شريحة أخرى. وهو ما يعيدنا إلى إشكالية النمط العشوائي في الحياة، والذي يمكن أن يحمل نتائج سيئة تتجاوز حدود البيئة المحيطة بأصحابها، خاصة أن فئة من هؤلاء تردد أن كورونا كذبة انساقت خلفها الحكومة. ذهبت شقيقتي لقضاء معاملة في أحد البنوك، متسلحة بكمامتها وقفازيها، وجلست في مكان بعيد انتظارا لدورها، فجأة وجدت سيدة تقترب منها وتجلس على المقعد المجاور لها، ولا ترتدي كمامة أو قفازا، وعندما نبهتها إلى ضرورة الابتعاد إلى مقعد آخر خوفا من العدوى، ضحكت السيدة بصوت مرتفع، وهي تنفي قطعا وجود كورونا أصلا، وأنه حيلة لجأت إليها الحكومة لضمان الهدوء وعدم الإخلال بالأمن. تفسر هذه الواقعة البسيطة أحد أشكال تجذر التفكير العشوائي لدى البعض، بمعنى أن السيدة وغيرها الملايين من المصريين لا يثقون في الحكومة والإجراءات التي اتخذتها، ما يبعدهم عن الخطاب الحافل بالتحذيرات، ويفقده كل مضامينه الصحية. تركت العشوائية تنتشر ولم تتم مقاومتها قبل كورونا، بل تعايش معها الجميع، ولعل مشاهد مرور السيارات في الشوارع تعكس هذه الأزمة. فهناك ترسانة من قوانين المرور، مع ذلك تكثر المخالفات، لأن السائقين لديهم طريقتان للتعامل معها، إما التغافل اعتمادا على شيوع ثقافة عدم تسجيل المخالفات أصلا، أو قدرتهم على تسوية الأمر من خلال معارفهم. تخلت حكومات مصرية في السنوات الأخيرة عن ضبط العشوائية في الشارع ووقف ظاهرة الباعة المتجوّلين، وتعتقد أن تسويتها تستلزم توفير بدائل اقتصادية أولا لأصحاب هذا السلوك. بدأ التهاون السابق ينقلب على رأس حكومة تريد تربية المواطنين ووضعهم على قوائم الانضباط فجأة ودفعة واحدة. وتتجاهل أن التربية الاجتماعية والاقتصادية والسياسية المختلة على مدار عقود سمحت بتغلغل العشوائية، ووجود شريحة منضبطة وأخرى منفلتة. توجد هذه النوعية في كل المجتمعات المتقدمة والمتخلفة وبدرجات متفاوتة. وعند وقوع الأزمات الحادة الكل يخضع للقانون، وحسب درجة الالتزام بتطبيقه تأتي النتائج، إيجابية أو سلبية. فالدول التي تعلي من شأن القانون ترتفع استجابتها وتزيد مناعتها ومقاومتها والعكس صحيح. فرطت حكومات مصرية كثيرة في هذه النقطة، ما جعل التهاون مع الإرشادات الجديدة سائدا. ومن يتمسكون بضوابطها بدقة ليس اقتناعا بما يتلقونه من أوامر وتعليمات حاسمة، لكن إيمانا بأن هذه هي الوسيلة الوحيدة للنجاة. الأمر الذي أخفقت الحكومة الحالية في توصيله إلى الناس، بدليل الزحام المتراكم في الشوارع والاستهانة بالوقاية. وعليها أن تخوض معركتها المؤجلة لمنع العشوائية حماية لأصحابها وحفاظا على طابور صاعد من المنضبطين.

مشاركة :