لا تزال علاقة الشرائح السياسية الوازنة في العالم العربي، تتسم بضحالة العلم بالتاريخ، إذ هي تعزف عن القراءة، وترى في البحوث التاريخية المكتوبة مادة مملة، لذا نادرا ما نلاحظ في تصريحات ومداخلات الساسة العرب، بعض الإيحاءات التاريخية أو ما يشير إلى اطلاعهم على تجارب السابقين. والأطرف من بين كل هؤلاء، هو جهالة الغالبية العظمى من رموز الشريحة السياسية الفلسطينية، لاسيما في الربع الأخير من القرن. ووجه الطرافة أن هؤلاء، يُفترض أنهم يناضلون من أجل قضية، يتوقف كل ما تفعله السياسة في الذود عنها، على حقائق التاريخ المعاصر حصرا! في الحقيقة كان هناك الكثير من أوجه الشبه، بين صيغة اتفاق أوسلو، والصيغة التي توصّل إليها الجنرال إدموند اللنبي للإعلان عن “استقلال مصر”، وكانت تلك صيغة مخادعة في شكلها ومضمونها، إذ وُضعت فيها العناصر الضامنة لاستمرار الحماية البريطانية على مصر ولعدم نيلها استقلالا حقيقيا. ووجه الشبه بين صيغة أوسلو التي أوصلت الفلسطينيين إلى مآلاتهم الراهنة، وصيغة “تصريح 28 فبراير 1922” الذي جلبه اللنبي للمصريين، أن الحركتين الوطنيتين، المصرية بعد ثورة 1919 والفلسطينية المعاصرة بعد انطلاقة 1965 ابتلعتا الطُعم الاستعماري. ونحن في هذه السطور معنيّون بما حدث في مصر، عندما ابتلع الزعيم سعد زغلول الطُعم دون أن يكون مضطرا له. فمن خلال حكايته، سوف يستشعر القارئ، أوجه الشبه بوقائع ما جرى للفلسطينيين. كانت قد انعقدت لسعد زغلول، شعبية عارمة شملت المصريين جميعا، وتبدت أعظم تجلياتها في الاستقبال الشعبي الذي حظي به الرجل، منذ أن رست السفينة التي حملته ومن معه، من مرسيليا إلى الإسكندرية، إذ كان الرجل، ومن معه، عائدين بِخُفيّ حُنين، من فرنسا التي قصدوها لحضور مؤتمر السلم والصلح الذي أعقب الحرب العالمية الأولى في قصر فرساي شرق باريس. وكان المؤتمر بدأ أعماله يوم 19 يناير 1919 ليؤذن بانتهاء تلك الحرب، ما يقتضي أن يتفاوض المنتصرون على تقسيم الغنائم ومعاقبة المهزومين، باقتطاع مساحات كبيرة من أراضيهم ومستعمراتهم، وفرض عقوبات مالية مديدة عليهم تحت عناوين التعويضات! في تلك الأثناء وعلى وجه السرعة، ومن خلفية معرفة الوفد المصري برئاسة سعد زغلول لطبائع الإنجليز، تم إبلاغ هؤلاء الأخيرين، بأن الوفد لا ينوي طرح القضية المصرية على أمم العالم، من خلال الدول المشاركة في المؤتمر. أي إنه لا يسعى إلى حوكمة دولية للمسألة المصرية، وإنما إلى إقناع بريطانيا بمنح الاستقلال لمصر، وإنهاء الاحتلال الجاثم على أرض مصر، منذ 37 عاما. كان الوفد المصري مستأنسا أيضا، بوثيقة الرئيس الأميركي وودرو ويلسون، التي سُميت “مبادئ ويلسون الأربعة عشر” ويقصد منها تقديم لائحة توجيهية لمفاوضات السلام والتأكيد على قيم الحرية وحق تقرير المصير، ومنع العودة إلى الحرب. غير أن المصريين عندما وصلوا ومُنعوا من حضور المؤتمر، فوجئوا بإدارة ويلسون تعلن أن لا علاقة لوثيقة الرئيس بالقضية المصرية، وأنها تؤيد الحماية البريطانية على مصر. ومن نافل القول إن الشق العربي الآخر، من الخائضين في صراع من أجل الاستقلال، وهو الهاشميون؛ كان حظه من التجاهل مماثلاً بل زادت عليه الإهانات الشخصية. فالملك فيصل بن الحسين، الذي سافر إلى فرنسا، لكي يطلب حقوق أبيه و”الثورة العربية الكبرى” تعرّض للاحتقار ومنع من الاقتراب من بلدة فرساي، وتحت ضغط الإلحاح والتوسل رُتّب له اجتماع مع السكرتير الثالث في الخارجية الفرنسية، ونائب رئيس إدارة الشرق الأوسط، الذي عامله باستهتار شديد وخاطبه بفظاظة، وأنكر أنه سمع بوجوده ووجود قوات له، تحارب مع الحلفاء! بالمحصلة، لم يعثر العرب على ضالتهم في تسويات ما بعد الحرب العالمية الأولى. لكن الأوضاع في مصر ظلت مضطربة والشعب ينادي بالاستقلال والأمور تتداعى. لذا اختارت بريطانيا قبل المؤتمر، الجنرال إدموند اللنبي الذي احتل القدس، لكي يصبح مندوبا ساميا وحاكما فعليا لمصر، بدءا من أواخر العام 1919. قرأ اللنبي المشهد المصري واهتدى إلى حيلة، ساعده على اجتراح فكرتها جليسه الدائم عبدالخالق ثروت، أحد أساطين الساسة المصريين التقليديين، الذي أقنع اللنبي بأنه طالما أن الاستقلال مرفوض، فلا بأس من صيغة شبيهة له. اقتنع اللنبي وسافر إلى لندن لكي يُقنع حكومته، وصرّح قبل أن يصعد إلى السفينة، أنه لن يعود إلى مصر إن لم تكن الموافقة في جيبه. فهذه هي الوسيلة الوحيدة لتهدئة الشارع وتهجين قيادته الوطنية. وبالفعل عاد بعد أسابيع وفي جعبته “تصريح 28 فبراير 1922”، وفيه إقرار بأن الدفاع عن مصر مسؤولية حصرية بريطانية، بمعنى أن لا يكون لها قوات مسلحة أو جيش وطني، وأن تكون حماية الأجانب والأقليات في مصر، مسؤولية بريطانية، أي أن هؤلاء خارج الولاية القانونية والسيادية للدولة المصرية، وأن يظل السودان في حوزة بريطانيا. وكان، من الجانب الشكلي، يتاح لمصر أن تمارس شكلا من الحرية في تغيير بنية نظامها الداخلي، وأن تستعيد وزارة الخارجية التي ألغيت سنة 1914 عندما أعلنت الحماية مع بدء الحرب، على أن تلتزم التناغم مع السياسة البريطانية، ولأسرة محمد علي الحق في اختيار ألقابها. وأن يصدر دستور للبلاد وتجرى انتخابات عامة. وعليه فقد استفاد فؤاد ابن الخديوي إسماعيل، فطوى عهد السلطنة قصيرة الأجل، التي ورثها فؤاد عن أخيه غير الشقيق السلطان حسين كامل (أي الرجل الذي طويت مرحلة الخديوية عند تنصيبه سلطانا) وأعلن فؤاد عن نفسه ملكا، وطلب بنفسه أن يسبق اسمه وصف صاحب الجلالة! ابتلع سعد ورفاقه طُعم تصريح 28 فبراير، وانخرط رفاقه في عملية صياغة الدستور الذي صدر في أبريل 1923 ثم تحدد موعد الانتخابات في يناير 1924 وفاز سعد زغلول على رأس “الوفد” وشكّل الحكومة بعد تشكيل البرلمان. كانت المدة أقلّ من عشرة أشهر، تكفي لامتصاص زخم سعد زغلول والحركة الوطنية وتهدئة اللعب. ولأن الصيغة كلها هشة ومخادعة، فقد كان يكفي لتحطيمها فتى مجهول الهوية، تربص في وسط القاهرة، بسيارة السير لي ستاك، حاكم السودان وقائد القوات البريطانية في مصر، فأطلق عليه الرصاص، فأصابه ومات لي ستاك في اليوم التالي. عندئذٍ وجد سعد زغلول نفسه، بعد عشرة أشهر من ترؤسه الحكومة، مضطراً ليس إلى التقدم بخطى حثيثة إلى “التنسيق الأمني” وحسب، وإنما إلى تنفيذ لائحة من “المطالب” تبدأ باعتذار الحكومة الرسمي عن عملية لا علاقة لها بها، وأن تجمع كل أعضائها وتشارك في الجنازة مع إظهار التأسي، ثم تقوم حكومة سعد بتقديم مرتكبي “هذه الجريمة والمحرضين عليها إلى المحاكمة لكي ينالوا عقابهم، وأن تعثر عليهم ولو من تحت الأرض، وأن تدفع تعويضا لأسرة ستاك نصف مليون جنيه إسترليني، وأن تقوم حكومة سعد، غصباً عنها بزيادة مساحة الأراضي المزروعة قطناً بمحاذاة خزان أسوان القديم، وأن تسلم للقوات البريطانية جمارك الإسكندرية وإيراداتها! استُدعي سعد إلى مقر اللنبي، وتسلم لائحة المطالب التعجيزية فقدّم استقالته. وبعد تلك الواقعة لم تقم للحكم في مصر ولا للحياة النيابية فيها قائمة طوال ثلاثين عاماً. فقد تغيّرت الحكومات خلال العقود الثلاثة، 32 مرة، 28 منها لم تكمل الحكومة سنة وعشرة أشهر، وحكومتان عملت من شهرين إلى ستة، واثنتان زادت عن السنة ولم تصل واحدة إلى ثلاث سنين. ومعظم الفترة كانت الحكومات استبدادية وغير مفوضة وبلا برلمان، أو ببرلمان مزور ودستور مصطنع في العام 1930. ولم ينته ذلك الحال، إلا بحركة الجيش عام 1952 التي يسمّيها الإخوان “حكم العسكر” تأسياً على حُكم الطرابيش!
مشاركة :