المسافة الفاصلة بين الدين الإسلامي والدعاوى التي تنشرها جماعة الإخوان، هي المسافة التي جعلت الكثير من الفقهاء يتبرمون من العنف المترتب عن الطموحات السياسية للجماعة، وهي المسافة نفسها التي سمحت بترعرع الفكر الإرهابي في أدبيات الإخوان، انطلاقا من تأويلات متعسفة على النص الديني، مرورا بثوابت أيديولوجية تحولت إلى مرجعية للجماعات التكفيرية، وصولا إلى ممارسات دلت على أن الإخوان طلاب سلطة أكثر من كونهم ذوي صلة بالتقوى والعدالة والحفاظ على الأوطان. لا يختلف اثنان ممن أرّخوا لجماعة الإخوان أو تحدثوا عنها بعد أن خرجوا منها، على كونها تنظيما أمنيا – سياسيا بلا فقهاء. فلم يكن جائزا إغفال ذلك، طالما أن الراسخين في العلم بأصول الدين والفقه، الذين انضموا للجماعة في ذروة رواجهم في أربعينات القرن الماضي؛ سرعان ما غادروا بعد أن اصطدمت تقوى كل منهم بأغراض وممارسات العنف والسياسة، وكان من بين هؤلاء الشيوخ السيد سابق، صاحب كتاب “فقه السنة” وصديقه محمد الغزالي، الذي أطلق عليه حسن البنا لقب “أديب الدعوة” والشيخ الفقيه أحمد حسن الباقوري، عضو مكتب الإرشاد في الجماعة والمرشح الأقوى لخلافة البنا في حال اتساع دائرة الشورى، وغير هؤلاء من الراجحين في العلوم الشرعية. فقد اتضح لهؤلاء، ولكثيرين ممن انتموا إلى الجماعة، أن العنف بدافع الطموح إلى دور سياسي، يناقض التقوى ومنطق العدالة والحفاظ على الأوطان وأرواح الناس فيها، فما بالنا عندما ينم السلوك في الحياة الداخلية للتنظيم، عن تكريس مبدأ التفريق بين مسلم ينتمي إلى الجماعة، وآخر يعيش حياة المواطن المؤمن العادي، غير المتحزب. نحن هنا، نركز على جماعة الإخوان لأنها سبب نشأة كل الجماعات التكفيرية التي انقلبت عليها. ومما يجدر التنويه، أن سيد قطب، هو المُنظّر الأول للتكفير. فقد كانت آراؤه، وهو المستجد على الجماعة، والمشكوك في أمره من قبل بعض قادتها السابقين؛ تمثل جوهر عملية التأسيس الثاني للجماعة في أوائل السبعينات. عندما بدت واضحة فكرة أن الفقيه المتعمق لن يتقبل لنفسه الحياة الحزبية لجماعة الإخوان؛ تصدى العديدون من أهل العلوم الإسلامية، لشرح أسباب هذه الظاهرة. لكن القائمين على خطاب الإسلام السياسي، وهو يختلف عن خطاب الدين وثقافته؛ استمروا في دغدغة عواطف الشباب في أقطار الفقر والبطالة، وكانوا يظنون -لاسيما بعد رواج فكرة “الحاكمية” في طرح سيد قطب- أن الأمور تسير في اتجاه صعود قوة “إخوانية” عملاقة وموحدة وبلا ثغرات، تحتكر تفسير الدين واشتقاق السياسات وتحديد الخيارات، وبلا جماعات تنافسها، أوحتى تتجرأ على تكفيرها. وهذا لم يحدث، بل إن العكس هو الذي حدث، وقد سجلت سائر الجماعات، ابتعادا عن جوهر الدين، وجهلا به على مستوى قادتها، وانخراطا في الجريمة المتقاطعة مع جرائم، حتى وصل الأمر بالشراذم التي في سيناء، أن تهاجم مسجدا وتقتل المصلين بالجملة، وتفتش في الزوايا وفي البيوت المجاورة، عن بعض الناجين، لكي تقتلهم بغير معركة بين طرفين، وكأنها تطارد جيش هولاكو! التوجهات التنظيمية لدى أية جماعة حزبية دينية، هي ظاهرة تفريق وليست ظاهرة وحدة، وظاهرة مسببة للتباغض والإحتراب قصارى القول، إن التوجهات والمساعي التنظيمية لدى أي جماعة حزبية دينية، هي محض ظاهرة تفريق وليست ظاهرة وحدة، وظاهرة مسببة للتغالظ والتباغض والاحتراب، في داخل أي مجتمع للمسلمين. وثقافتها ليست إسلامية بقدر ما هي تنتمي إلى المستوى المتدني من السياسة العامية، ومنطق السذج الواهمين، وتحركها غرائز الرغبة في السيطرة على الناس وادعاء الجدارة في الحكم على درجات إيمانهم، بل وعلى ما في قلوبهم. ربما كان من أخطاء الدولة في مصر، بعد أن جرى الفتك بتنظيم الإخوان في منتصف الستينات؛ أنها حرصت على محو آثارهم تماما، فلم تتح لقادة التأسيس الأول الذين واكبوا تجربة حسن البنا، أن يكتبوا مذكراتهم وينشرونها، لكي يتبين حجم الافتئات والفساد والشطط السياسي والأمني في حياة الجماعة، وصلتها بالسفارة البريطانية. فقد تحدثوا هم بأنفسهم عن كل تلك الممارسات عندما أُتيح لهم أن ينشروا مذكراتهم. فقد كان منعهم بعد الإجهاز على تنظيمهم أمرا خاطئا، علما بأن الدولة نفسها أتاحت لسيد قطب أن يؤلف “في ظلال القرآن” داخل السجن، وأن يتواصل مع الناشر باستمرار، بينما كان قطب يؤسس لثقافة التكفير، بأطروحة “الحاكمية” التي وفرت الأساس الأيديولوجي لكل الجماعات التكفيرية. كان قادة “الإخوان” المصريون، قد سجلوا عرضهم الأخير في ميدان رابعة في القاهرة، ورفعوا صورا للرئيس عبدالفتاح السياسي مشنوقا، على سبيل تظهير النوايا، فقوبلوا بجنس العمل على صعيد التطابق. وهؤلاء -للأسف- أظهروا سذاجة سياسية ورعونة مستغربة. وهم على أي حال من الجيل الذي انتمى إلى الجماعة في بدايات عقد السبعينات، وجميعهم كانوا طلابا في كليات علمية، لا يهتمون بالقراءة خارج منشورات الجماعة، ولا بالقراءة في أمهات الكتب. هم أخذوا علما بأن مشروع الجماعة، يهدف إلى “استئناف حياة إسلامية طاهرة”. ولم يكونوا معنيين بالقراءة عن طبائع المجتمعات وأحوال التنوع. بشفاعة جذر التأسيس الثاني للجماعة انفتحت الأبواب لنشأة الجماعات التي تهجم على المجتمع وإن لم تهجم تتذابح، والتي يُفتى لها ضباط منشقون. محمد عبدالسلام فرج، خريج الهندسة، تميز عن طلبة الكليات العلمية الآخرين بالذهاب إلى قراءات سريعة، متعجلا إصدار كتابه التنظيري “الفريضة الغائبة” لكي يصبح “الأمراء” الجدد قادرين على معاندة كبارهم “الإخوان” وعلى حمل راية الله، دون سواهم من جماعات أو مكونات مجتمعات المسلمين في غير مصر! لقد تعمدت الجماعات الأصولية من كل المذاهب، توظيف عبارة تكررت في ثلاث سور قرآنية؛ بشكل يقطع صلتها بسياقها (إنِ الحُكم إلا لله) وكان ذلك ولا يزال، لتبرير السعي إلى السلطة السياسية وإلى تكريس الاستبداد ضد من يعارضون أو يطالبون بحقوقهم الإنسانية في كل مجتمع متنوع، تحت زعم مارق أن هذا الاستبداد يُمارس باسم رب العالمين وتؤيده شريعة الله. Thumbnail ومن نافل القول إن الغُلاة “الخوارج” هم أول من استخدم عبارة “إنِ الحُكم إلا لله” لكي تؤدي وظيفة مغايرة، وهي تعزيز خيارهم في نمط التحكيم الذي يريدون، وليس نمط الحُكم الذي يسعون إليه. كان ذلك أثناء معركة “صفّين” بين جيشي علي ومعاوية، في العام 36 – 37 هجريا، عندما رُفعت المصاحف على أسنّة الرماح، إذ لجأ معاوية بن أبي سفيان عندما أوشك جيشه على الهزيمة النهائية، إلى حيلة أخيرة، قبل أن يستكمل مالك بن الحارث الأشتر، قائد قوات علي، قص الرقاب. فقد دعا بقايا جيشه، إلى رفع المصاحف على أسنّة الرماح، ومعنى ذلك أن يكون القرآن الكريم حكما بين الطرفين. وكانت ألوف “الخوارج” في جيش علي، هي التي جلبت المصيبة، إذ تحولت إلى الخيانة بذريعة التقوى، فقال قائلها مخاطبا أمير المؤمنين مجردا من لقبه: “ياعلي، أجب القوم إلى كتاب الله إذا دُعيت، وإلاّ قتلناك كما قتلنا ابن عفّان، فوالله لنفعلنّها إن لم تُجبهم”. فأجابهم علي “ويَحَكُم.. أنا أوّل مَن دعا إلى كتاب الله، وأوّل مَن أجاب إليه”. فطلبوا منه أن يستدعي علي قائد جنده “الأشتر” الذي يتوغل في صفوف جيش معاوية ويقترب من الإجهاز عليه. فوجد علي نفسه بين خيارين، إما أن يدع سفك الدماء يستمر ويسجل على نفسه رفض التحكيم على كتاب الله، وإما يقبل التحكيم ويوقف النزيف. فارتضى الخيار الثاني الذي رآه أهون الشرّين! غير أن الذين اعتمدوا شعار “إنِ الحُكم إلا لله” لمقاصد مختلفة، مستغلين تطابقا بين لفظة “الحُكم” عندما يكون معناها التقاضي أو الاحتكام، ومعناها عندما يُقصد بها السيطرة على السلطة وإغلاق باب التداول عليها، والتجبر على الناس باسم رب العالمين. إن هؤلاء الذين يسعون إلى حُكم باسم الدين، ليسوا إلا محض طلاب قهر واستبداد، يساوي أو أشد كثيرا أو قليلا، من استبداد بعض خصومهم في العالم العربي. ومن المفارقات أن الفقيه السنّي الأصولي المتشدد ابن تيمية نفسه، قد أسهم في تأسيس شيء مغاير لفكر “الإخوان” وسائر الجماعات الضحلة في معرفة الدين. فمن يقرأ ابن تيمية وشروحاته، أو كتابه “موافقة صريح المعقول لصحيح المنقول” سيرى أن ذلك الفقيه هو أول من دعا إلى حق الاختلاف، ومبدأي القياس ومراعاة المقاصد والمصالح المرسلة والموازنة بينها. أما جماعات ما يُسمى “الإسلام السياسي” فلا بأس عندها من تدمير الأوطان في سبيل إخضاع أهلها، ثم دهن ذقونها بالعطور الزيتية، وكأنها تعطرت!
مشاركة :