تنذر كل التطورات المتسارعة في الملف الليبي بأن غرب البلاد يسير نحو وضع أكثر تعقيدا مما سبق. وبالاستناد إلى كل ما يحصل في ميدان الحرب، بعد ما حققت حكومة الوفاق بدعم تركي انتصارا عسكريا مرحليا بالسيطرة على قاعدة الوطية، فإن الوضع بات مرشحا للإسراع في تقسيم البلاد، خاصة مع وجود قبائل بدوية ترفض بقوة سيطرة قوى الإسلام السياسي على مفاصل الدولة ولها حسابات وثأر مع كل الميليشيات الخارجة عن القانون في فترة ما بعد 2011. أصبح على الذين يعتبرون أن الجيش الوطني الليبي قادم من شرق البلاد لغزو غربها، أن يتحلوا بواقعية أكثر، فحكومة الوفاق ليست هي المشكلة الأولى، وإنما السبب الرئيسي للأزمة أنها تخضع لميليشيات خارجة عن القانون ولقوى الإسلام السياسي التي تعتقد أنها ستضع يدها على مفاصل الدولة الليبية رغم فقدانها الشرعية الشعبية، وأنها تستفيد من الفوضى والتحالفات الإقليمية والدولية والمساومات على الثروة والتضليل الإعلامي لتحقيق أهدافها. واستفادت قوى الإسلام السياسي في ليبيا من بعض النزعات الجهوية والعرقية ومن تحالف الخطاب الديني مع مصالح التجار ورجال الأعمال الفاسدين، ثم من استدعاء الدخيل التركي والمرتزق السوري والإرهابي الباحث عن مأوى، للسيطرة على جزء من الأرض. هل يعني ذلك أن قوى الإسلام ستحقق أهدافها؟ الجواب لا، فالمشهد الليبي يختزن الكثير من الحسابات الأخرى، منها إقليم طرابلس متعدد الثقافات وأغلبية سكانه من القبائل البدوية التي لها ثأر مع الإسلام السياسي ومع الميليشيات الخارجة عن القانون يعود إلى 2011 وما بعده. وتعرض الآلاف من أبناء القبائل للقتل أو الإخفاء القسري أو الاعتقال أو التهجير، ولها اليوم الآلاف من العسكريين في صفوف الجيش الوطني الليبي والقوى المساندة له، وهي لن تقبل أن تكون تحت سلطة مستعمر تركي أو إخواني أو جهوي شوفيني من مصراتة يفخر بولائه لأردوغان. هذا الواقع يخفي بدوره حقيقة أخرى، وهي أن جانبا من تلك القبائل لا يزال غير معترف بالعملية السياسية لما بعد 2011، ولا بمخرجات ورموز الواقع الجديد، وهو مناهض لسلطات طرابلس وقيادة الجيش والإخوان والميليشيات وجماعات الثوار والتدخل الخارجي بصفة عامة. ويمكن ملاحظة ذلك بوضوح خاصة في بني وليد مركز قبائل ورفلة، كما أن هناك قبائل منقسمة على ذاتها بين قوى اجتماعية داعمة للجيش ومجالس عسكرية ثورية مساندة لحكومة فائز السراج ومرحبة بالغزاة الأتراك كما في الزنتان مثلا التي لا يزال أبناؤها يقاتلون في الجانبين: البعض مع الجيش والبعض الآخر مع الميليشيات. علينا أن ندرك كذلك أن أكثر من ثلثي سكان العاصمة هم من أبناء القبائل، وخاصة تلك الداعمة للجيش كترهونة التي ينتمي إليها وحدها ثلث سكان طرابلس تقريبا، وهي اليوم الهدف الرئيس للميليشيات والمرتزقة باعتبارها الحاضنة الأساسية للقوات المسلحة. ماذا لو غادر الجيش نحو المنطقتين الشرقية والجنوبية وتخلى عن المنطقة الغربية؟ الثابت والمؤكد أن حربا أهلية ستشتعل في إقليم طرابلس، فلا ترهونة ذات القوة العسكرية الكبيرة ستسمع بغزوها من قبل الميليشيات، ولا الرجبان والزنتان العربيتان ستقبلان باحتلالهما من قبل مسلحي الأمازيغ في الجبل الغربي ولا بني وليد ستخضع لهجوم جديد من ميليشيات مصراتة، ولا عسكريو الغرب الليبي سيغادرون نحو برقة أو فزان ويتخلون عن دورهم في حماية قبائلهم وأهاليهم. إن ما حدث خلال الأيام الماضية من انسحاب للجيش الليبي بكامل عتاده من قاعدة الوطية بقدر ما أعاد خلط الأوراق، فإنه كان قرارا منتظرا لأسباب عدة، بعضها لم يتضح إلا بعد أن دخلت جماعات الإرهابيين والمرتزقة إلى القاعدة الإثنين الماضي، ومنها أن إخراج قوات الجيش من تلك المنطقة كان هدفا لدول عدة، وكان جزءا من مشروع عسكري واقتصادي وأيديولوجي سياسي. لنسأل أولا، هل كان يمكن لأي قوة عسكرية منتشرة في مساحة من الأرض منبسطة ومفتوحة على العراء أن تتصدى للقصف المتواصل على مدار الساعة من قبل الطيران المسيّر ثم بواسطة صواريخ التوماهوك المنطلقة من بارجة موجودة في عرض البحر؟ الجواب حتما سيكون لا، خصوصا عندما تفتقد تلك القوة إلى منظومة دفاع جوي متطورة كالتي تسارع الدول القوية العسكرية بما فيها تركيا لاستيرادها من الدول الكبرى. عندما بدأت مهمة إريني الأوروبية فعليا قبل أكثر من أسبوع في تنفيذ دورياتها البحرية والجوية لتنفيذ القرار الأممي بمنع توريد السلاح إلى ليبيا، كانت البوارج التركية تمخر عباب البحر قبالة الساحل الغربي الليبي وتطلق الطائرات المسيرة وصواريخ توماهوك لقصف مواقع تمركزات الجيش حول قاعدة الوطية، أمام أعين الرقيب الإيطالي المشرف على العملية والذي صارع طويلا من أجل استبعاد اليونان عن تلك المهمة على الأقل خلال الأشهر الستة القادمة. الموقف الإيطالي نحو الملف الليبي عرف في العموم اضطرابا كبيرا خلال السنوات والأشهر الماضية، حيث انقسمت مؤسسات الدولة في تقييمها للوضع، ما جعلها تركن إلى الخيار الانتهازي كالذي حدث في ما يتعلق بقاعدة الوطية، حيث كانت داعما للتدخل التركي، وهو ما فسرته مصادر عدة بضغوط شركة إيني عملاق النفط والغاز التي توجد أغلب استثماراتها في غرب البلاد، وكذلك لتنافس روما الواضح مع باريس حول المصالح في ليبيا، وللدور الذي تلعبه قطر من خلال دبلوماسية الصفقات في جر الإيطاليين إلى حلفها مع تركيا والإخوان. ولعل ما ورد على لسان عضو المجلس الرئاسي أحمد حمزة المهدي من شكر لإيطاليا على دعمها لميليشيات الوفاق خلال استقباله الإثنين السفير الايطالي جوزيبي بوتشيني الذي زاره لتقديم التهنئة بـ”تحرير قاعدة الوطية العسكرية” وكذلك ما ورد على لسان وزير الخارجية الإيطالي أثناء اتصاله الثلاثاء بفائز السراج، خير دليل على أن إيطاليا لم تكن بعيدة عن الدور التركي وإنما شريكة فيه وبقوة. الأمر ذاته ينطبق على الموقف التونسي الذي سبق أن اكتنفه الكثير من الغموض، لكن تهاني رئيس البرلمان ورئيس حركة النهضة راشد الغنوشي لفائز السراج بالسيطرة على القاعدة، كشفت عن ابتهاج إسلاميي تونس باستبعاد الجيش الليبي عن الحدود المشتركة بين البلدين، وأوحت بدور ما لعبته تونس في تيسير العملية، خصوصا في ظل التحركات المريبة سواء كانت التركية أو القطرية للزج بالجانب التونسي في المستنقع الليبي كداعم لجماعات المرتزقة والإرهابيين العاملين لتنفيذ أجندات الإسلام السياسي. المواجهة لن تقف عند الوطية ولا أي منطقة أخرى ورهان البعض في المنطقة الغربية على التدخل التركي والقطري والدعم الإيطالي أو التونسي والآلاف من المرتزقة السوريين لن يحل المشكلة التي تبدو أكثر تعقيدا، فالمجتمع الليبي في غالبيته الساحقة غير قابل للإخوان، ولن يسمح لهم بالسيطرة على الدولة ومقدراتها، ولا لهيمنة الميليشيات. وينظر المجتمع الليبي إلى تركيا على أنها قوة احتلال ولقطر على أنها سبب أساسي في الخراب الذي حل ببلادهم ولإخوان تونس على أنهم شركاء في العدوان ولحكومة الوفاق على أنها حكومة عميلة تعبث بمصالح شعبها.
مشاركة :